شعبة 17 ديسمبر

مرّت الشعبة الدستورية في بلادنا بثلاثة أطوار كبرى:

الطور الأول في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، حيث كانت ركيزة أساسية من ركائز بناء الدولة الحديثة تجسيدا لنظرية (الجهاد الأكبر) التي تعتبر مقاومة الفقر والتخلف معركة لا تقل أهمية عن المعركة مع المستعمر. وفي غياب العديد من المرافق العمومية كالبلديات ودور الشباب والثقافة ومراكز البريد والمستوصفات ومحطات النقل ومكاتب الإرشاد الفلاحي كانت الشعبة الدستورية قلب الرحى في القرى والأرياف لا يعرف المواطنون غيرها إلى جانب أولياء الله الصالحين وكانت الدولة لديهم مختزلة في (الشعبة) ورئيسها.

في عهد بن علي، ولأنّ شعبنا "بلغ من الوعي والنضج ما يسمح لكلّ أبنائه وفئاته بالمشاركة البنّاءة في تصريف شؤونه"، تضاعف عدد الشعب الدستورية في إطار سياسة (فرّقْ تَسُدْ) وتغيرت وظيفتها، إذ أصبحت رياضة (ردّ الخبر) أبرز نشاطاتها، وكانت التقارير الأمنية التي ترفعها هي ولجان الأحياء المتفرعة عنها "إلى من يهمه الأمر" عن سلوك الناس اليومي وأحوالهم واهتماماتهم كما ترصدها في المساجد والمقاهي والأماكن العامة عاملا من عوامل "الاستقرار الاجتماعي" القائم على غريزتي الطمع والخوف.

الطور الثالث في عهد الرئيس قيس سعيد، حيث بقيت الشعبة قائمة الذات صامدة في وجه الريح والصقيع، بينما تجمّدت الأحزاب جميعُها ولم يبق غير (حركة تونس إلى الأمام) تساند شعب فنزويلا الشقيق ضد الهجمة الإمبريالية، و(حزب التحرير) ينادي علنا بإلغاء الدولة الوطنية، و(الوطد) يسبح بحمد مولاه! بقيت الشعبة رغم زوال التجمع بقرار قضائي ثوري اختلف في تقييم جدواه، وبعد أن تفرق الوصوليون والانتهازيون والمخبرون والوشاة على كل الأحزاب وأفادوا بخبرتهم السياسيين الهواة، بقيت الشعبة جاثمة على الأرواح والأفئدة باسطة ذراعيها لا سيما في المناطق النائية ووراء الجبال، تلك الربوع التي لم تصلها (الدولة) رغم مضي أكثر من ستين عاما على الاستقلال.

على مرّ السنين أثبتت الشعبة أنها ليست في حاجة إلى مقرّ، ولا لرئيس أو كاتب عام أو أمين مال أو ميزانية كي توجد، فهي موجودة بالقوة قبل أن توجد بالفعل، تسكن في القلوب والضمائر، الشعبة عقلية وطريقة تفكير وأسلوب حياة قبل أن تكون تنظيما حزبيا. ومظاهرات المساندة الشعبية للرئيس يوم 17 ديسمبر 2025 في ذكرى انتحار البوعزيزي لا يمكن أن تكون إلا من تنظيم الشعبة بكل ما تمتلكه من خبرة في إدارة الاستبداد، بكل مهاراتها في تشكيل الحشود من الفقراء والمحتاجين وعابري السبيل والمسنين، وكل من رفع عنه القلم إلى جانب المصفقين والطبالة الموهوبين بالفطرة الذين (والحق يقال) كانت الشعبة في ما مضى تقمعهم وتحدد لهم هامش الحركة فلم يكن ممكنا لأحدهم أن يتمرّغ على الأرض تعبيرا عن حبه للرئيس.

الشعبة الساكنة في أعماق الناس هي التي تجعلهم لا يتحملون فكرة الحرية ويستهزئون من حقوق الإنسان ومن يدافع عنها، ويعتبرون الطموح خطيئة، والمعارضة وفاقا إجراميا. الشعبة وحدها وهذه معجزتها الحقيقية تستطيع أن تجعل المتضررين من عجز السلطة وفشلها أكبر المدافعين عنها.. والأشخاص الذين يفترض أن يكونوا أول الثائرين على النظام يصفقون له ويطالبون ببقائه إلى الأبد، حدث ذلك فيما مضى ويحدث اليوم كما سيحدث غدا وبعد غد..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات