هو مين فينا الجبان؟

بينما تغزو صور الذكاء الصناعي مواقع التواصل الاجتماعي استطاعت صورة طبيعية واحدة التقطت بهاتف جوّال أن تتفوّق على كل الصور وتدخل التاريخ من أوسع أبوابه، إنها صورة أحمد نجيب الشابي في كامل أبهته، يحمل ضحكته وحقيبته وسنوات عمره الثمانين التي قضى معظمها في النضال السياسي وفي مقارعة السلطات ومناهضة الاستبداد، يتأهب للذهاب إلى السجن. صورة واقعية مرشّحة للخلود.

ستخلد هذه الصورة بلا شك، فلم يبق لنا غير الصور والوعود. بالصور يتبادل الكثيرون إنجازات وهمية يحلمون بأن تتحقق في تونس، ويصل بهم الأمر حدّ النقاش حول جدواها وتكلفتها وآجال دخولها الخدمة! وهي محض أوهام ما كانت لتكون لولا هذه الطفرة التي تشهدها تطبيقات الذكاء الصناعي والبارانويا الجماعية التي يتخبط فيها شعب كامل ودرجة الإحباط غير المسبوق في التاريخ: محطة فاخرة للقطارات في العاصمة، ميترو يربط ولايات الساحل، شوارع نظيفة خالية من القمامة، طرقات سيارة، مستشفيات فخمة، مطارات جديدة…

إننا نحلم، لأن الحلم هو الشيء الوحيد المتبقي بعد انهيار كل الأشياء الجميلة من حولنا، وكل صورة من هذه الصور التي يبتكرها الخيال الالكتروني تفضح حالة العجز وقلة الحيلة والتخبط وضبابية الرؤية لدى صناع القرار، ليس هذا فقط، بل جنون العظمة أيضا وتوهّم القدرة على تغيير مسار التاريخ وإصلاح شأن الإنسانية، كالدّيك الذي يؤذن وساقاه عالقتان في الخراء…

مشاهدة الصور وممارسة الانتظار، كل ما يقوى عليه شعب تطبخ له السلطة الحصى كي ينسى جوعه وينام، فيما تظل هي صاحية آناء الليل وأطراف النهار تحرس «الأنين المتصاعد من أحلام النيام». كل صورة يتخيلها التونسيون عما كان يمكن أن يكون عليه حالهم عضة ندم وتنهيدة حسرة ودمعة حزن، فنحن لا نستحق هذا، لكن ذهبنا إليه بأنفسنا ولم يقتدنا إليه أحد، نتحمل جميعا مسؤولية أخطائنا، لكن ليس إلى الحد الذي نذبح فيه كالخراف الوديعة الصاغرة قربانا لنصف إله جديد.

الانتهازيون يوهمون العوام أن هذه المنجزات الوهمية ستكون مشاريع حقيقية بفضل إرادة رئاسية صمّاء في تطهير البلاد من الخونة والعملاء، تلك طريقتهم المعهودة في تعبيد الطريق بألسنتهم لحكم فردي مطلق لم تشهد له البلاد مثيلا، إن الخضوع والتسامح مع الذل هو العقبة الكأداء أمام أي تطور حقيقي على أرض الواقع، والداصة والدهماء يعتقدون دائما أن الحرية امتياز برجوازي لا ضرورة فطرية، هنا دقت الشعبوية إسفينها، وغلغلت في الجرح سكينها، هنا رشت ملحها كي لا ينمو شيء بعدها فوق هذه الأرض.

صورة أحمد نجيب الشابي تتحدث عن الواقع لا عن الأوهام، صورة عن الحرية بوصفها مطلبا إنسانيا لا شرطا إيديولوجيا، وهي أقوى من كل حروف التسويف التي يستخدمها الخطاب الرسمي العالق في أوهامه، وأعمق من كل الصور التي يمكن أن تخترعها الخوارزميات للمحبطين، صورة إنسانية تنبض بالحياة وبالحقيقة وكأنما تتساءل مع الفاجومي: «هو مين فينا اللي خان والا مين فينا الجبان؟» صورة ابتسامة لم ير أحد مثلها من قبل على وجوه رجال الحكم، ابتسامة واحدة تكفي لإعادة النظر في ما يبدو للوهلة الأولى أمرا بديهيا: من هو السجين ومن هو السجّان؟

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات