تاريخ هنا يتشابك في نظرات تشكّل مثلثا متوازيَ الأضلاع، كلوحة المسيح وحوارييه !
صاحب النظّارات - الموروثة عن أمّه - هو سيّد اللّوحة، أشيب قاسي الملامح كعود أعجف ولكن بأنف لا تخطئ العين كبرياءه. لا يبدو تعبا من "إضراب الجوع " الذي يخوضه بعناد طفل .. فقد خبر تجربة الأمعاء الخاوية في سجن 9 أفريل الموافق ل"عيد الشهداء " - يا لسّخرية المناسبة ! - ودفع الذي دفع من أجل ألاّ "يُجدع "أنفه!. أكلّ الأنوف سواء ؟! : يساريّ في أبهى ما تكون اليسارية النبيلة ( la gauche noble ) التي تقاتل في صفوف العمّال والفلاّحين، يساريّة نور الدين بن خضر وجيلبار نقّاش .. يساريّة تؤمن بقيمة "الحرية" قبل الايديولوجيا. فهجرت يسارا آخر موطّأ الظهر للركوب.
في أدنى اللوحة، وجه طفلة.. عيناها معلّقتان بذلك "الأشيب " كأنّها تسمع بكلّها وصاياه وتعاليمه. نظرة لا تخلو من استجداء ممزوج بشدّ أزر ورفق معقود بتحدٍ.. تكاد تقول له :" لقد كبرت ولم أعد تلك " الفزغولة" التي تظفر لها جدائلها ..لم أعد أبكي يا أبي لأنّك أبي "! جبينها مرفوع يتناظر مع ذلك الأنف العنيد فيشكلان معا خطّا غير مرئي يتصاعد نحو فكرة "المقاومة والصبر".. تبدو كطفلة عنيدة مشاغبة رغم ملامحها الهادئة ولكنّها تعجّ بالمعنى فلا تنتبه ليد "الأشيب " تحنو على يديها المربّعتين على ركبتيه .. كذا هنّ البنات سرّ آباهنّ !
في صدر اللوحة، شابّ ملتفت بأجمعه نحو سيّد اللوحة يبدو منهكا غير أنّ نظرته تنبئ بأنها تكتشف شيئا في "الأشيب"! يبدو لي أنّه يقول لنفسه :" أيّة صخرة هذه التي احتملت سجنا وتنكيلا واليوم جوعا فلا تلين ؟!" كيمياء ما بينهما تقول إنّ الفكرة العظيمة هي التي تصنع الرجال العظماء فلا نامت أعين " البيّوعة والقوّادين"! هذا الشّاب سيعيد تاريخ أبيه: حلقات من النضال يشدّ بعضها بعضا حتى ينتصر الجمال على القبح في هذا البلد ..!
ذاك هو صاحبي الغول ..
المرأة التي في آخر اللوحة لا تبدو محايدة أمام فيض العاطفة في المشهد .. لقد شهدت "آخر عشاء للمسيح "!
ملاحظة : إذا ما قيّض الله لنا أسبابا لهذا البلد فأرجو أن تضعوا هذه اللوحة في مدخل متحف يؤرّخ للحقبة .