الصلاة في المدرسة: منع أم تنظيم ؟

مصلى في قلب المعهد أو في قلب الكلية، كان ذلك جائزا ولا يزعج أحدا في زمن لم تكن فيه الصلاة في عين العاصفة . بل كانت حاجة روحية قبلت بها المؤسسة التي لم تكن ترى فيها أي مساس بقداسة العلم . كان التلاميذ على عهدنا في السبعينات من القرن الماضي قبل بداية انتشار المد الاسلاموي يصلون في معاهدهم في قاعة مخصصة للصلاة دون أن تثير صلاتهم أحدا . فلم يكن هناك بين الدرس والصلاة لا تناقض ولا تباين بل تمايز في الحيز المكاني وفصل في الزمان يقرره الدرس لا أوقات الصلاة التي تتخلل الدروس أحيانا . كلاهما كان يدخل في تكوين النشء عقلا وروحا. فالواحد منهما ينشد ما ينشده الآخر، لكن بغير الوجه الذي ينشده به ، « فمُتعلَّقهما واحد ووجه تعلُّقهما مختلف » . لذلك بنى خيرالدين الوزير المصلح المولع بالغرب في ركن من أركان المعهد الصادقي مسجدا لا تزال صومعته قائمة الى اليوم . و لذلك أيضا لم يجد أحد غضاضة في أن يرفع الطلبة بإيمانهم وخيالهم بيتا للعبادة في حرم المركب الجامعي بالمنار، ترى صومعته من بعيد في شكلها اللولبي الذي يشبه القرطاس الملفوف والغريب على المعمار التونسي ، صممه مهندسو المستقبل الذي صار ماضيا. كان بلا شك نتيجة تفنن في العمارة لم يتقيد إلا قليلا بما نعرفه في صوامعنا فأنتج شيئا بلا مثال… أخرج الطلبة المهندسون خبرة القسم ووضعوها في قلب الحرم الجامعي عقلا وإيمانا . هو زمن توارى شيئا فشيئا منذ حل عصر الرئيس المعزول إذ أغلقت المساجد في مرابع الدراسة بل طالها التضييق والمراقبة في غير أوقات الصلاة في خارج أسوار الجامعة . كانت صلاة الصبح شبهة في المساجد تترصد كل المصلين خاصة إذا كانوا من فئة الشباب وطالت تهمة الإرهاب من لم يكن لهم من ذنب أحيانا غير أداء الصلاة في أوقاتها في الجوامع والمساجد .

حين جاءت الثورة لم يكن أحد يتوقع على وجه الدقة أن يعود التدين بإشكاله المختلفة إلى قلب المناقشات العامة و في المعاهد والكليات خاصة…تغير اللباس والموقع والسلطة وخرجت عناصر التباين التي خنقها النظام البائد ولكن لم يتمكن من قتلها إذ سكنت تحت الأرض بل تحت الجلد في طبقة غير سميكة ولم تكن تفعل غير انتظار أول مناسبة لمعاودة الصعود إلى السطح. كان ذلك في جوهره بنية رمزية أي نظام للأفكار والمواقف العامة المجسدة في الكلمات والأشياء والسلوك. كل ذلك وفي كثير من الأحيان في طابع سلفي تقليدي.. جاءت عناصر نموذج ثقافي جديد قديم من التوجهات العقائدية الملتفتة إلى الماضي ، ساعدتها أرقي طرق التواصل في كون معولم تنتقل فيه الأفكار بلا حواجز فتخترق الحدود والبلدان واللغات…

حاولت اللغة القديمة الجديدة بعد الثورة ان تفرض نفسها في ألفاظ لا تخفي إلا قليلا جانبها الانتصاري بل الانتقامي فخلطت بلا تحديد بين حرية التعبير والاعتقاد من جهة وتسلط النظام السابق من جهة أخرى فاعتقدت أنها بفرض رقابة من نوع آخر على « عناصر الحداثة » لا تفعل غير الاقتصاص لنفسها من أولئك الذين خدموا النظام البائد فحماهم ومكن لهم في الأرض » فافسدوا الأخلاق و شوهوا الهوية وباعوا أنفسهم للأجنبي المتربص بنا » على حد اعتقادهم كان انتشار هذه اللغة إيذاناً بانتصاب محاكم للتفتيش تنبش في كل فكر وتجرّح في كل إبداع.. ومن الأمثلة على ذلك، الهجمات على سينما « أفريك آرت »-بسبب عرضها الفيلم المثير للجدل « لا ربي لا سيدي » في 26 جوان 2011(فيلم وثائقي حول مدى التزام الشباب التونسي بصوم رمضان)، وعلى مكاتب قناة « نسمة » التلفزيونية الخاصة بسبب بثّ الفيلم الفرنسي- الإيراني « برسيبوليس » في 9 أكتوبر 2011 (يصور الفيلم حوارا خيالا بين طفلة صغيرة وكائنا تعتبره إلها)، وعلى السفارة الأميركية للاحتجاج على فيلم أميركي اعتبر مسيئا للنبي محمد في14 سبتمبر 2012.كما اقتحم السّلفيّون بعد تهديداتهم النهارية ليلة 10 جوان 2012 قصر العبدلّيّة الحفصيّ بالمرسى الذي كان يحتضن عرض ربيع الفنون. دنسوا الأعمال الفنّيّة التي يعارضونها، ومُزِّقَت وخُربت حوالي عشر لوحات. وهي أعمال عدّها المهاجمون خروجا عن الدين. وغير ذلك من الأمثلة التي نستطيع عدها في هذا الحيز الضيق.

إن الثقافة القديمة الجديدة لا تهتم كثيرا بالوصف والتحليل بقدر اهتمامها بالتذنيب والتجريم وقد ورثت ذلك من زمن الدولة السلطانية الجائرة ومن دولة الاستبداد الحديثة فأعادت إنتاجه مع استبدال للأدوار بين الجلاد و الضحية …اكتشفنا أن ما كنا نسميه حداثة بعناصرها الأولية الصلبة التي تقوم على المساواة بين أفراد مواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات بلا تمييز قبلي أو عشائري أو ديني أو جنسي والقائم أيضا على الحرية التي تسمح للإنسان بان يؤمن أو لا يؤمن وبأن يختار دينه أو يغيره دون أن يتهمه احد بأنه مرتد ودون أن يهدده كائن من كان في سلامته الجسدية والمعنوية ليست غير شعارات كان يتجمل بها النظام القديم ليخفي عوراته ثم ليعتدي عليها هو نفسه وبلا حياء من خلال اغتصابه لكل الحريات وتحويله المواطنين إلى رعايا .

في هذا المناخ الذي تشكلت فيه خارطة علاقات عامة جديدة ظهرت « حقوق » غيبها النظام المخلوع ولم يتجاوزها عن قناعة ورضى شعب محافظ ورع حتى ولو كان ورعه في كثير من الأحيان شكليا تكذبه السلوكات غير الورعة التي تسكن حنبا الى جنب مع مظاهر تدين سطحي . ومن هذه الحقوق حق الصلاة في غير المساجد العامة وفي المؤسسات التربوية التي تتحول فيها قاعة من قاعات الدرس أو ساحات الرياضة المدرسية إلى شبه مسجد بلا صومعة ولا آذان …كان لا بد للمطلب في جو الفوضى الذي صنعته الثورة أن يتحول إلى حق بل أن يصير الحق وبسرعة محيرة إلى معضلة . لقد وصل الأمر الى حد لم يتصوره أحد. ففي أحد معاهد الضاحية الشمالية في السنوات الأولى للثورة صار التلاميذ يطالبون بمغادرة الدرس لأداء الصلاة مثل ما وقع ذلك في معهد الكرم لان الصلاة في خيال التلميذ المتحمس للعبادة خير من الدرس وأبقى . فهما متمايزان في ذهن الصبي تمايز الأفضل عن المفضول .

من كان يتصور أن يحاسب التلاميذ الفن التشكيلي ودرس الفلسفة وروائع الأدب بمنطق الحلال والحرام فيتزامن طلب فتح المصلى بإغلاق قاعات الدرس التي لا تتقيد » بحقوق الله » التي نسبها إليه البشر الصغير؟ من كان يتصور أن يدخل الأستاذ الجامعي كليتة على اصوات« تكبير… تكبير » جاءتنا بلا شك من حدودنا الجنوبية تصرخ بها الحناجر الغاضبة من الملتحين الذين جاؤوا يهددون العميد إن لم يخضع لطلبهم تمكين الطلبة من مكان للصلاة ؟ وهم في انتظار ذلك قد حولوا فضاء الكلية طولا وعرضا وبحسب الطقس والوقت والعدد والوظيفة إلى مصلى في الهواء الطلق بكل من يظهره ذلك وما يخفيه من مسرحة للصلاة إلى حين يتحقق الطلب ؟. وفي ترابط لا يخفى على أحد كان يرافق كثير من هؤلاء الطلبة المنقبات إلى القسم للدفاع عنهن إذا احتجن إلى ذلك في وقائع مشهودة عرفتها كلية الآداب بمنوبة وليس هذا مجال التوسع فيها. كان طلب المصلى يأتي في مناخ من التشدد والعنف وفي فوضى التمايز الذي يفضّل الثانوي على الأصلي و يغلب الجزئي على الكلي فينتصر الثانوي في أماكن الدراسة أحيانا وهو التعبد قولا وفعلا مقدما على الأصلي في المدرسة وهو الدرس أولا وأخيرا …لسنا ضد أن يكون للتلاميذ أو الطلبة مصلى فنحن ضد المنع باسم مدنية الفضاء الدراسي أو باسم عقلانية لا نحسب أن من شروطها أن تطرد عناصر التدين من المدرسة ولا باسم تناقض الدين والعلم فالتناقض لا يقع إلا صلب القول الواحد .أما الدين والعلم فخطابان مختلفان وخطان لا يلتقيان أبدا ولكن قد لا تسير سكة الحياة إلا عليهما معا،

فالعلم برهاني يقيني في حين أن الدين ظني وجداني فلا احد قادر يوما أن يثبت وجود الله يقينا كما تتصوره الأديان الكتابية ولا أحد قادر أن يثبت عدم وجوده أما الأديان الكبرى في الشرق الأقصى مثل البوذية فهي لا تعرف مفهوم الاله الشخصي الذي يخلق ويحاسب كل إنسان على حدة جزاء أو عقابا. فالبوذية بمعنى ما ديانة « ملحدة » اذا جاز لنا أن نسيمها كذلك ودون أي معنى استنقاصي . الإنسان عندنا عقل ووجدان وهذان يمكن ان يتساكنا في جسد الواحد منا دون نزاع ولا مغالبة.

كل هذه المسائل المرتبطة بالتدين لم يحسم فيها احد بشكل نهائي . ولكننا ودون استخفاف ساذج ودون أن نهمل أيضا أن البعض استغل الفرصة لتلهية الناس عن المشاكل السياسية والاقتصادية التي غرقت فيها البلاد في المدة الأخيرة نتوجس خيفة من مظاهر انتشار مظاهر التعبد الجماعي غير المنظم في المؤسسة التربوية وخاصة في المعاهد التي لم ينم فيها عقل التلميذ بعد وبشكل كاف للحكم على الأشياء وذلك لسببين مختلفين أما الأول فهو أن يتحول المصلى في الهواء الطلق إلى مركز جندرمة أخلاقي يصادر المنهاج المدرسي أو الجامعي أو يتدخل فيه تحليلا أو تحريما وإرصادا لكل عناصر المقرر بما يستجيب لدعاوى حماية الدين من « المارقين عليه » وخاصة في ما له صلة بالفنون الإنسانية من رسم وشعر وفلسفة وحينها يصبح اللا النظام جزءا من النظام فيختلط الحسن بالقبيح وتتوقف المدرسة عن أداء واجبها وهو صقل المعارف وتهذيب الذوق. وثانيهما أن تصير أماكن العبادة خلايا حزبية تأتمر بأوامر المتشددين من خارج المؤسسة التربوية بل أحيانا من داخلها أيضا إذ قد لا يصدر التضييق من المتعلم في وجه المعلم فحسب بل من المعلم ضد المعلم.. حينها يصبح أستاذ التربية الدينية عدوا لأستاذ الفلسفة والعكس ممكن أيضا ولقد راينا ذلك في مناسبات متعددة

… ولكن هل الحل في المنع ؟ …كلا، نحن من أنصار الإباحة والحرية رغم ما يطويان عليه من مخاطر. لقد جربنا المنع فما طالنا منه غير امتلاء القلوب بالحقد والكراهية . لسنا من أصحاب الحلول الجاهزة ولكن هل بالإمكان مناقشة المسالة بهدوء وتصور مدونة سلوك يناقشها الجميع ويقر بنودها الجميع تحفظ للناشئة حقهم في الصلاة في المدرسة إذا أرادوا ذلك ولكن في أماكن مخصصة للصلاة ومراقبة من طرف الإدارة وحق المؤسسة في أن تعلّم خارج دائرة التجاذبات الأيديولوجية او الحزبية وبعيدا عن مفردات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات