إلى : المرحوم الأستاذ خيرو المرعي
وما كنا كندماني جذيمة، لكننا كنا رفيقي حقبةً من الدهر حتى قيل لن يتصدعا، ورفيقي طبشورة نثرت على أيامنا بياضها، فكنا نعدّ على أصابع أيامنا السود، بياض ألواح الطباشير التي لم نملك غيرها لنخبأها ليوم أسود.
ما كنا كندماني جذيمة، لكننا كنا ندماني ياسمينة تسلقت على كل الجدران، وأبت أن تتسلق على يوم من أيامنا على أنها عطرها كانت تعرف ما وراء أكمة ضحكنا من توجع؛ فكانت تحنو بظلها على أحلامنا المشردة كالدخان في الهواء الذي لم يبق سواه في أيامنا لم يؤجر. على أننا نجد رسم نقائه بطباشيرنا يوماً . على الرغم من أننا رسمنا بأصواتنا المبحوحة أوطاناً من اللغة لأجيال. علمناها السفوح التي تستنشق فوقها الهواء النقي .
ما كنا كندماني جذيمة ،لكننا كنا ندماني أحلام طلابنا عندما تسقط أحلامنا وتؤجر كخان للمشردين، ولم تكن أحلامنا أكمة وراءها ما وراءها، فقد سحبنا ظلالنا مع أول طبشورة ذابت بين أصابعنا عن قصور الأحلام المزيفة، والتصحر القادم من غرب المتاجرين وشرقهم وما ملكت أيمانهم من خبزنا وما خنقت أيسارهم من أحلامنا.
وما كنا كندماني جذيمة لكننا كنا ندماني كلمة لم يرتد صداها خيمة لتؤوينا من غربة ولطول ليلها ظننا أننا لم نبت ليلة إلا في جرحنا معاً، ولكن لما تَفَرّقنا كأني و"أبا سليمان"... لطول اجتماعٍ لم نَبت ليلةٌ معاً.
لكنك يا صاحبي - وليس كعادتك - تركتني وحيداً أسترجع صدى ضحكاتنا، كلماتنا، حواراتنا، فأغص بما لم يغصّ به مكسور قلب... وتلك ليست عادتك أن تخلف الوعد :أما وعدتني ألا أشرب الشاي وحدي وألا أرسم على دفتر الذمم النائمة بالطبشورة خيمة عهدة ضامري الضمائر...وألا أرسم زهرة في عيد المعلم من حروف أسمك الخير وأنت الخير ليس بعضه وكله لأنك خيمته في مخيم اللاجئين من احتلال أحلام الطيبين بأبراج لا يطالها نظرنا و الحدائق المعلقة للفساد في خرائط مهندسي الوهم و الزيف...
و لأننا كندماني جذيمة و أخيي القلب و الوجدان و الأيام البسيطة في شوارع حمص، ومقاعد طلابها، لأنك الأستاذ الذي زرع بساتينه على دفاتر أجيال ما نسوا "الأستاذ خيرو المرعي" الذي مازال صدى صوته يتردد بين بساتين وجدانهم... كنا كندماني جذيمة.. وأبقى نديم ذاكرك أيها الطيب والأخ و الصديق و المعلم الذي لم نتعلم منه على الرغم من كل ما علّمتنا إياه أن نوفيك التبيجيل، لقد تركتني نديم ماض لا يرجعه الصبر :
أما والذي أبكى وأضْحَـــــكَ والذي
أماتَ وأحيا والـذي أمرهُ الأمر
لقد تَركَتْني أحْسُدُ الوحشَ أن أرى
ألِفَيْنِ منهــا لا يَروعُهما النّفْر
وإنّي لَتَعْروني لذِكراكِ فَتْـــــــرةٌ
كَما انْتَفَضَ العُصفورُ بَلّلهُ القَطْر
ولتعروني يا أبا سليمان لذكراك رعشة لا يرسمها الحبر، و لا ينصفها الشعر، ولتعروني يا أبا سليمان في غيابك رجفة تقهر لساني عن وداعك، وهل ترضى بما لم ترضه أيها الطيب .. هل ترضى لي أن أجول تلك الشوارع التي رصفناه بخطأ عاثرة، وأن أمشي جانب تلك الياسمينة وحدي، وألا أشاجر واللغة تمر من جانبي بفم "العجماوات".
رحلت يا صاحبي وتركتني أسأل عن نصف قلبي الذي أوجعه ألا يدفن معك، وإن كان في نومك لا ينفعك، تركتني أحسد الماضي الذي لم يذهب معك، ها أنا يا أبا سليمان أمرّ قرب غفوتك الأخيرة أحصي ما ذهب مني معك.. ها أنا يا صاحبي لا أملك في وداعك أن أودعك، فقد انكسرت الحروف الهامسة والمجهورة في فمي، وجرتني أحرف الجر إلى عثرات كسرة القلب.
وكأني لم أكن معك ونحن ننزع الخافض عن المجرور بالضحك، بالشجار، بأخطاء الأحلام الشائعة، ونهمز الموصول لعلنا نتوصل إلى وجدان الأخير بغير المهجور من الضمير، ونعلم الطلبة أن البلاغة و البيان و الفصاحة ليست بجناس الناصب و المنصوب، وطباق الصدى للصوت، وزحاف القهر نحو بحر غربتنا الكامل، اعذرني يا أبا سليمان لرطانتي، فلغيابك قسوته وحرجه على الروح والكلام.
اعذرني إن لم أستطع كتابة كلمة تليق بغيابك النبيل، اعذرني إن أثقلت على روحك الطيبة أيها الأخ و الصديق. فنم أيها الطيب بطيبتك التي لا تطالها اللغة، نم عليك السلام في نومك لا يطيب الكلام ، اغفر لي استعارتي، فعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي ، فقد كنا وكنا وكنا :
وكنا كندماني جذيمةَ حقبةً
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تَفَرّقنا كأني و"روحك"ً
لطول اجتماعٍ لم نَبت ليلةٌ معا