وعليّ الآن أن أصمت، استحيت أم لم أستح ، فما عاد يموت مَن يستحي ولم يستح مَن يموت .وكان عليّ أن أستحي وأن أموت لأني لم أستح حين كنت ميتاً ، وكان عليّ أن أستحي لأني لم أمت حين كنت أبذّر الكلمات التي لم تستح، وكانت ميتة، فأيّ معنى لمقالة تسفح على صفحات الجرائد تتغنى بريادة في صناعة الأسنان الذهبية لشارل الرابع الذي ورّثها لحفدته الذين أكلوا بنهم ما ظنوه لحم خنازير برية من أكتاف أمهات الطبقة الثكلى من أعراب الثورات وأكلة التمر الحاف في الأعياد القومية المرة، وأي معنى لقصيدة خمسة أرباعها زحافات بسبب تكرار اسم السلطان المقصور في آخره والمهموز في لقبه والمعلول بتصريحه و الممدود في مواراته، وأي معنى لقصيدة عروضها دائماً لاسم واحد إن خسر العرب سبعة أثلاث أراضيهم هو بطل بربحه سباق الهجن في آخر ضيعة ضائعة بعد السند وقبل الهند، وأي معنى لقصيدة ضروبها دائماً للقب حاكم رابض على أبواب مستقبل أمته كنمر مسعور يقفلها بعظام أفخاذ نسوتها، وأي معنى لقصة تسرد بالخطف خلف المستقبل وحبكة اللإنسانية بطولة القفز بمظلات الأنا على سطح الوطن، وأي معنى لرواية فصولها لا تنتهي تروي ولا ترتوي بسراب المواطنة، وأي معنى لمسرحية كل مشاهدها فنتازيا دولة أحلام اليقظة.
وللقصة بقية، بقية الشعب البدون الفائض عن المواطنة الخاصة بملوك الكراسي.
وعليّ الآن أن أصمت لا لأن الصمت من ذهب بل لأن كل حرف أكتبه يتردد صدى في حنجرة شيطان أخرس، لا لأني أسكت عن الحق إنما لأن الحداثة مواراة عن الحق، وما بعد الحداثة كناية عن موت الحق، و الأصالة تفسخ جثة الحق .
أصمت لأن كل كلمة صارت مزمار شيطان أخرس، كل كلمة جرسها يوقّع: عدّي عما ترى وعما تسمع وعما تحس وقف على أطلال درس عهدها ووجدان بلى بُحّ صدى غناه أو نم عما تحلم وغض الطرف فإنك لا تبلغ إنساناً في ذاتك ولا ذاتاً في إنسانك، فلا حرف يردد جرس صرخة أمّ: هذا ابني حضني خيمته لا الصدى بلدي، مزارعكم معاطف الجيران المستوردة، هذا ابني وردة بلدي لا مزق الوردة على الشاشات الجارة، هذا ابن الحارة لا متسول على باب الجارة التي طالما جارت علينا فما أغلقنا باباً في وجهها ولا عزّ ثدي أمهاتنا على أطفالها، ولا ازور خفق قلبنا عن مقاسمتها لحم أكتاف آبائنا، وعزّ عليّ ألا أرى إلا النواح و الندب يرددون صدى موتنا و تفنيد وحوش الأخوة بيننا، وكأن ذئباً واحداً يكفي لكل يوسف فينا رُمي بالجب أم لم يُرم لو أني أستحي شأني شأن سبعة أسباع الكتبة نستحي عن خرس شيطاننا لأننا مشغولون بتمكين خرس وجداننا، فما أخرسنا عن الحق، وما أجرأنا عليه، ما أخرس ضميرنا، وما أشد استئجارنا لهوانا، فنحن كتبة الزمن الآخر و المكان الآخر، ما أجرأنا على استشعار فساد الغرب وظلم الشرق وما أعمانا عن موتنا بين ظهرانينا نحن كتبة الوهم والهوى والزيف و الدجل نحن الشياطين الخرس لو نصمت ونخنق نقيق حروفنا لرحمنا من في الأرض فنحن شهود الزور وزور الشهود نؤجر ألسنتا للشياطين الخرس فلنستح ولا نموت فما أبعدنا عن الاثنين و(أشيطن) خرسنا .