هواء لا يُتنفس في قابس، المدينة التي كانت تُعرف بجمال بحرها ونخيلها، بات الهواء نفسه سببا في دخول المستشفى. بين شهري أوت وسبتمبر 2025، تكررت حالات الاختناق الحاد، خاصة في أحياء غنوش وبوشمّة والمطوية، وسط صمت رسمي وتضارب في التصريحات. هذا التحقيق يتتبع أثر التلوث الصناعي على صحة السكان، ويكشف كيف تحوّل مجمع الفسفاط من رمز للتنمية إلى مصدر دائم للقلق والموت البطيء.
شهادات من قلب الأزمة
"نهار كامل وأنا نستنشق كاوتشو محروق، حتى ولدي الصغير ما عادش يخرج يلعب" – محرزية ، 45 سنة، من سكان حي الشاطئ.
- في أسبوعي 18 و25 أوت 2025، سُجلت أكثر من 60 حالة اختناق، أغلبها لأطفال وكبار السن، وفق بيانات مستشفى قابس الجهوي وتصريحات جمعية "أوقفوا التلوث".
- في 1 سبتمبر 2025، أصدرت الجمعية بيانا توثّق فيه تصاعد الروائح الكيميائية وتكرار أعراض مثل السعال الحاد، ضيق التنفس، وتهيج العينين.
- فاطمة (74 سنة) تعافت من سرطان الثدي والرحم، وتربط مرضها بتلوث الهواء: "هذا يقتلنا، هذا كل ما نتنفسه، نهارا وليلا".
- شقيقتها سالمة (76 سنة) تعاني من مشاكل قلبية وطفح جلدي، وتقول إن الأطباء لا يجرؤون على الربط المباشر خوفا من السلطات.
-بولبابة يعاني من مرض صدري و يقول انه تعب كثيرا جراء هذا التلوث و هو خائف على مستقبل أبنائها الصحي.
التلوث بالأرقام
- المصنع يُنتج سنويًا أقل من 3 ملايين طن من الفسفاط حايًا، وتسعى الحكومة لرفعه إلى 14 مليون طن بحلول 2030، وفق ما أُعلن رسميا في المجلس الوزاري بتاريخ 5 مارس 2025.
- النفايات الرئيسية، الفوسفوجيبس، تُرمى في البحر وتُنقل عبر الهواء، رغم أنها مادة مشعة ومسرطنة حسب دراسات من مختبر Géosciences Environnement في تولوز.
- الدراسة الفرنسية (ديسمبر 2024) كشفت عن:
- تركيزات عالية من الرصاص وثاني أكسيد الكبريت.
- أمراض مزمنة تشمل القلب، الرئة، الكبد، الكلى، والمعدة.
- تشوهات خلقية وأمراض مناعة ذاتية في مناطق بوشمّة وغنوش.
بين الإنكار والتواطؤ
- وزارة الصحة أعلنت في مارس 2018 عن دراسة حول علاقة التلوث بالأمراض، لكنها لم تنشر نتائجها حتى اليوم.
- الحكومة تراجعت عن مشروع تفكيك المصنع الذي أُعلن سنة 2017، وقررت بدلا من ذلك مضاعفة الإنتاج ضمن خطة 2025–2030.
- في جوان 2025، تم حذف الفوسفوجيبس من قائمة النفايات الخطرة، واعتُمد كمادة قابلة للاستعمال بشروط، ما أثار جدلا واسعا.
من يحمي الحق في الصحة؟
ينص الفصل 38 من الدستور التونسي على أن "الصحة حق لكل إنسان"، وتلتزم الدولة بضمان الوقاية والعلاج. كما يُعد الإخلال بهذا الواجب، خاصة في ظل توفر الأدلة العلمية، أساسا قانونيا للمساءلة.
وفقا لقانون المسؤولية الطبية المصادق عليه في جوان 2024، تُعد المؤسسات الصناعية مسؤولة عن الأضرار الصحية الناتجة عن أنشطتها، ويُعتبر الإهمال أو التقصير في الوقاية من المخاطر الصحية إخلالا جسيما.
في هذا السياق، يمكن اعتبار تجاهل الدولة لتوصيات الخبراء، وعدم نشر نتائج الدراسات الصحية، وتوسيع نشاط المجمع رغم الأضرار المثبتة، إخلالا واضحا بواجبها القانوني في حماية الصحة العامة، مما يفتح الباب أمام دعاوى قضائية جماعية أو مطالبات بالتعويض.
الاقتصاد مقابل الحياة
- المصنع يوفر وظائف مباشرة لـ4000 عامل، في منطقة تبلغ فيها البطالة الوطنية 15.3%، و36.8% بين الشباب، وفق تقرير المعهد الوطني للإحصاء للثلاثي الثاني من 2025.
- السكان يطالبون بنقل المجمع خارج المدينة أو وقف تصريف النفايات في البحر والهواء.
- منسق حملة "أوقفوا التلوث"، خير الدين دبية، صرّح: "هذا المصنع يضر بالهواء والبحر وجميع أشكال الحياة".
الرمزية والمقاومة
- في وقفة احتجاجية بتاريخ 26 جوان 2025، رفع الأطفال لافتات كتب عليها: "الهواء يقتلنا"، "ڨابس تحب تعيش".
- المصنع الذي افتُتح سنة 1972 كرمز للحداثة، أصبح اليوم رمزا للخراب.
- ذهبية، 67 سنة، تفكر في بيع منزلها: "من سيشتري منزلا هنا؟ الدولة تحصل على الأموال ونحن نعاني من الأمراض".
من يملك حق التنفس؟
قابس لا تختنق فقط من الغازات، بل من الصمت الرسمي، ومن تواطؤ السياسات مع الربح. هذا التحقيق ليس نهاية، بل بداية لسردية جديدة، تُعيد للهواء حقه في أن يكون نقيا، وللسكان حقهم في الحياة. إن لم تُفتح النوافذ، فلنُفتح الملفات.