حديقة برشلونة

بإصلاح حديقة برشلونة يتجمل وسط المدينة من جديد ويسترد بعضا من عافيته وروحه، فتلك الحديقة وأختها (ساحة المنجي بالي) قطعتان نادرتان من زمن ضائع لن يعود.

أنا أعرف ساحة برشلونة جيدا، وأذكر بوضوح شديد تدشينها الأول في السبعينات، وكيف تدفق المواطنون لرؤية نوافيرها الملونة، كانت في ذلك الوقت حدثا مبهجا وجذابا، كانت مماشيها تغص بالرائحين والغادين في أمسيات الصيف القائظة ولياليه الطويلة، وعلى كراسيها يجلس العاشقون وعابرو السبيل وطلاب الجامعات، والمسافرون، وكنا أيام الجامعة نشقها في اتجاه محطة الأرتال لنسافر في قطارات نظيفة، سريعة ومريحة، ونعود إليها صباح الاثنين في سيارة أجرة تدخل المدينة من باب عليوة وتنعطف مع ساحة المنجي بالي نحو نهج انقلترا في طريقها إلى قاراج اللوح في باب الجزيرة.

لا يمكن الحديث عن العاصمة في أعوام الشغف تلك، دون التوقف عند سكانها، ففي تلك العمارات المبنية على الطراز الكولونيالي في الأنهج المتفرعة عن شارع الحبيب بورقيبة، يسكن الوافدون على المدينة من مختلف مناطق الجمهورية، موظفون، حرفيون وعمال شكلوا اللبنة الأولى للطبقة الوسطى الجديدة: البورجوازية الصغيرة الناشئة، ولم يكن بيت من بيوتهم يخلو من مستلزمات الرفاهة والتدبير المنزلي: الراديو والتلفزيون والثلاجة وماكينة الخياطة.

وأنت تتجول في (الكوليزي) مثلا، سترى حرفاء حانة (الروتندا) بهندامهم الأنيق وأحذيتهم اللامعة، والندل بمناديلهم البيضاء والفراشات الحمراء تزين العنق، وستصغي إلى عصافير باب البحر مساء وأنت تطوف بأكشاك بيع الأشرطة والاسطوانات وكتب الجيب وباعة الزهور والهدايا. لقد كانت لوحة فنية رائعة يزينها كل مساء الفنانون وهم يتوزعون في محيط المسرح البلدي ودار الثقافة بن خلدون وقاعات السينما، وينتشرون في حانات شارع قرطاج حيث كان يمكن الجلوس على الكراسي الخارجية لاحتساء كل أنواع المشروبات إلى وقت متأخر من الليل.

لا أذكر متى تغير هذا المشهد الرومنسي الجميل، ومتى بدأ الخراب يزحف على هذه العاصمة الرائعة، هل كان ذلك عندما أغلقت الشركة التونسية للتوزيع أبوابها وأصبحت مصبا هائلا للفضلات، أو حدث ذلك عندما أبعد باعة الزهور إلى محطة قطارات حلق الوادي وزالت أكشاك الكتب والاسطوانات؟ هل حدث ذلك مع تغيير الشكل الخارجي لنزل أفريكا؟ أم مع ظهور الميترو الأخضر الذي يخترق المدينة للوصول إلى محطة برشلونة؟ كل ما أعرفه أن الرداءة اجتاحتها من كل الجهات.

قد لا يكون مهما معرفة التاريخ الذي بدأت معه رحلة الصعود إلى الهاوية، فحديقة برشلونة أصبحت مأوى للمشردين والمتسولين وباعة السجائر المهربة، والنشالين، وأصبحت كل الشوارع المحيطة بها سوقا للملابس المستعملة، وانتهى عهد القطارات المريحة والحانات التي تسمح لك باحتساء كل المشروبات على الرصيف، تغيرت ملابس الناس، وأصبحت المكتبات محلات لبيع الأكلات السريعة وصارت نافورة الحديقة مبولة كبيرة وصار عبور النفق المتجه إلى محطة القطارات مغامرة حقيقية تتطلب شجاعة استثنائية!

شكرا قيس سعيد، شكرا محمد البوزيدي، فتلك الساحة جزء من ذاكرة المدينة وبعض من روحها، وإني أصارحكما بأن الحجارة والاسمنت غير كافيتين لبناء الحضارة والتقدم، بل ينبغي أيضا نحت كيان الإنسان وترميم روحه المتصدعة وانتشاله من الهوة التي تردى فيها، فالحكمة الشعبية الصينية تؤكد أن سور الصين العظيم لم يحم البلاد من الغزوات لأن الغزاة اخترقوها بالرشوة والفساد. وكذلك حديقتنا هذه، لن يكتمل إصلاحها إلا بتغير أحوال روادها، أما إذا ما عاد إليها المتشردون والمتسولون والنشالون وباعة المحارم الورقية والسجائر المهربة (وسيعودون) فاعلما أن الدولة لم تفعل لهم شيئا غير تجميل البؤس وتوفير ظروف أفضل لممارسة الفقر.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات