يبدو انه ما كان يُلمّح له منذ أشهر وفي كل لقاء مع وزير من الوزراء أصبح اليوم قرارا للتنفيذ ! دون الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المسؤولية ولا تبعات قرار كهذا..
هنا نحن نتحدث عن الإدارة، عن سلطة قرار وتنفيذ ومسؤولية والاهم فهم عميق للوظيفة أو المهمة المُكلّف بها.. فهم للعمل ولتراتبية الوظيفية ولنفسية الموظفين ولأهمية القرار وارتباطاته وانعكاساته على الإدارة وعلى حياة المواطنين.. ولو كان الإشراف الإداري بتلك السهولة لما رأينا ذلك الكمّ الهائل والمرعب من الفشل الوزاري في إدارة قطاعات مختلفة في مرحلة ما بعد الثورة!!
بعض الوزراء عجز عن اتخاذ قرارات بسيطة أو اتخذ قرارات كارثية ولولا وجود بعض الرقابة والتوازن من النقابات أو من البرلمان أو حتى الهياكل مهنية في عشرية الانتقال الديمقراطي والتي ستبقى على علاّتها مرحلة مفصلية وتاريخية في تسيير الدولة رغم كل الأخطاء!!
لكن على الأقل في ذلك الوقت كانت هناك قوى ضغط فعلية بما في ذلك الاعلام لفرملة الجموح الاداري نحو قرارات غير منصفة للمواطن.. فما بالك اليوم والدولة تعيش حالة عجز وانكماش رهيبة..
ثم كيف يمكن لمعطّل عن العمل لسنوات نسي حتى ما تعلمه في الجامعة أن تضعه في موقع قرار إداري في مجال وظيفي لا يفقه منه شيئا..أو لا علاقة بدراسته أو باهتماماته.. مهما كانت عبقريته فلن تكون هناك معجزات!!
وما تحكيليش على الدولة الوطنية لان حتي خياراتها كانت مدروسة وتم الاختيار على مسؤولين كان لهم الحد الأدنى من الخبرة بعد الاشتغال في ذات المجال مع الفرنسيس.. وحتى من لا يملك الخبرة تم تعويض ذلك بدورات مكثفة في فرنسا ذاتها لأخذ الخبرة.. ارجعو للتاريخ..
يعني تنجم مثلا تحط واحد متخرّج جغرافيا والا تاريخ في إدارة من إدارات التجهيز الذي تحتاج إلى تكوين في الهندسة والا تحط واحد متخرّج عربية والا فلسفة على رأس وحدة تابعة للصيدلية المركزية!!!
هل هذا معقول..
الوقت الذي سيهدر في تعليمه هذا أن تعلّم هو وقت مهدور من عمر الإدارة و القرار والمصلحة العامة.. هل يكفي هنا الانخراط والحماس للبناء والتشييد والولاء السياسي لمن يتحكم في الدولة ان يصنع معجزة.. لا يكفي !!
لأن المسؤولية الإدارية - لا نتحدث عن المسؤولية السياسية- ببساطة هي مسار مهني متكامل.. حتى لو فشل المسؤول أو قصّر فان فشله أو تقصيره يعتبر من الأخطاء المهنية وليس الكوارث المهنية..
أنا اشتغل في جريدة مصادرة ورأيت بعد الثورة كيف استقدموا مسؤولين لا يمتّون للعمل الإعلامي وليس حتى الصحفي بصلة ورأيت الكوارث التي ارتكبت.. رأيت ماذا حصل عندما أصرت الترويكا بقيادة النهضة على وضع "بوليس" على رأس المؤسسة على امل التحكّم في الخط التحريري وما نتج عن ذلك من مصائب!!
هذه تفاصيل شاهدتها وعايشتها عن قرب.. فكيف يمكن اليوم أن نأتي بشخص لا يملك أدنى خبرة ونضعه في موقع قرار إداري.. نمنحه المسؤولية ؟؟؟
تقول لي الخبرة ليست مهمة المهم الحماس للبناء والتشييد..
لا مهمة..
مهمة في إدارة فريق العمل.. في معرفة الإشكاليات العميقة داخل الإدارة.. هل يعقل أن يكون الحاجب يعرف اكثر من مدير عام يعني.. هل يعقل!! ما نحكوش لهنا على بنّاية ومرمة.. نحكي على إدارة.. ساعات في كلماتها التقنية توحل.. في معرفة الحرفاء و كل العلاقات العامة المحيطة بها.. توحل... راهو لكلام ساهل.. والبحث عن حلول سهلة اسهل.. أما الواقع حاجة أخرى.
والدولة موش ملك أي طرف..
الدولة ملك التوانسة لكل.. ولأنها ملك مشترك.. فالمسؤولية الإدارية فيها لها قواعد و ضوابط وطريق معلوم من مناظرات وترقيات والتدرّج الوظيفي الخ موش وجاهة و شهادة دكتوراه وسنوات بطالة!!
''في افريل الماضي صرّحت في الاعلام احدى المتحدثات باسم الدكاترة المعطلين عن العمل وقالت أنها تواصلت مع الرئيس وقد أكّد لها-وفق تصريحها-أن الدكاترة أولى بتولي المناصب العليا في الدولة ! واعتقد أن ذلك ما يفسّر رفضهم اليوم لبعض المقترحات من وزارة التعليم العالي وغيرها من الوزارة..
أكيد نحن مع الحق في العمل.. ومع حقهم هم بالذات في الكرامة.. ونطالب بحلول منصفة لهم..ولكن حلول منطقية وليس حلول كهذه قد يتضرّر منها المستفيد نفسه لاحقا..
رأينا كيف وضع من لا خبرة له ولا كفاءة له.. ليست دراسية ولكن هنا نتحدث عن الكفاءة المهنية وهي مختلفة تماما في مناصب عليا.. ورأينا النتائج الكارثية..
لو لم تكن مختلفة لما فكّر نظام بورقيبة في أحداث المدرسة العليا للإدارة لتخريج مسؤولين في الدولة . وعندك الف مثال.. ولاة الولاء والصدف مثلا.. الذين غادروا لاحقا بصفر انجاز مع ترك جبال من المشاكل!! .
لا تستخفّوا بالمسؤولية ولا بالإدارة، فهذه الدولة صمدت في كل الأوقات الحرجة لأنها تملك كفاءات إدارية مميزة زمن النكبة السياسية..
قل عنها ماشئت.. بيروقراطية.. بطء.. تواكل.. محاباة.. ولكن في النهاية انت تملك كيانا راكم الخبرة والتجربة وجيش من الموظفين على كثرتهم الزائدة عن الحاجة أحيانا ولكن يتدخل دائما في اللحظة الحاسمة باش تبقى الدولة واقفة على ساقيها رغم كل ما تعيشه من عبث واستنزاف!!