الشعب العظيم!

خلال معرض تونس الدولي للكتاب تُتداول على مواقع التواصل الاجتماعي صورةٌ أضحت كلاسيكية ومميزة، صورة الطوابير الطويلة أمام الأبواب الحديدية. آلاف الآباء والأمهات يصطحبون أطفالهم إلى قصر المعارض ليقفوا في صفوف تبدو بلا نهاية لاقتناء التذاكر قبل الوصول إلى صالات العرض، بعد اجتياز كثير منهم اختبارا آخر في البحث عن مأوى لائق للسيارة تحت أنظار حراس باندية.

ومع اقتراب موعد مهرجان قرطاج شاهدنا صورا مماثلة احتشد فيها المئات من المواطنين داخل مدينة الثقافة لاقتناء التذاكر، ولنا أن نتخيّل كيف تكون أجواء العاصمة في جويلية وحرارتها التي لا تطاق، وكيف يكون الوصول إلى شارع محمد الخامس في أوقات الذروة للانضمام إلى هذا الطابور، وكما هو الحال في معرض الكتاب تعتمد هذه الصور من قبل بعض الجهات للافتخار بأن الشعب التونسي شعب مثقف! شعب عظيم!

يفضل الجميع تأويل هذه الصور بما يعزز إحساسهم الجماعي بالرضى عن النفس، ذلك أسهل من قراءتها على حقيقتها، فهي في الواقع دليل لا يقبل الشك على ما يعانيه الشعب التونسي المُنكَّــلُ به من بؤس، فمن المفارقات العجيبة ألا يتساءل أحد: لماذا ينبغي أن أقتطع تذكرة للدخول إلى معرض الكتاب؟ والحال أن هذه المعارض مجانية في سائر الدول، وحتى إذا ما فُرضت فيها رسومٌ على الزائر ففي مقابل خدمات ملموسة أولها عدمُ الوقوف في أي طابور!

أما في المهرجانات الصيفية فيمكن بكل بساطة الاقتصار على بيع التذاكر الكترونيا. وذلك ممكن وسيكون مفيدا للجميع، لكن وزارة الثقافة لها رأي آخر، وهي حريصة على تقديم خدمة ثمينة لأباطرة السوق السوداء، وعدم استثنائهم من غنيمة المهرجانات، يؤكد ذلك انتشار التذاكر على الانترنت يوما واحدا فقط بعد صورة طوابير مدينة الثقافة، يبيعها هؤلاء لمن لا يرون مانعا في التعامل مع الاقتصاد الموازي!

لا يتوقف الأمر إذن عند التطبيع مع البؤس والتخلف بإضفاء مسحة رومنسية عليهما بمثل هذه الصور المضللة، بل يتفاقم في هذه (العناية الموصولة) التي توفرها أجهزة الدولة للفاسدين وهي تتظاهر بمحاربتهم والسعي إلى القضاء عليهم! إن البرود واللامبالاة في تعامل المؤسسات الرسمية مع المارقين على القانون يجعل من الفوضى أسلوب حياة، بطريقة (دعه يعمل دعه يمر)، فيما يوهمنا بعض البيروقراطيين الصغار أن طوابيرهم شكل من أشكال التنظم والرقي!

نحن ننظر إلى الأشياء بمنظار مقلوب فنعتبر البؤس والشقاء عظمة ومجدا، ونبني على هذا التصور كل عناصر رؤيتنا للوجود، نحن الأفضل دائما، والأذكى، وبلدنا الأجمل والأحلى، والآخرون جميعهم هم السيئون الذين يتآمرون عليه. انظروا مثلا كيف يراوح مشروع الوثائق البيومترية مكانه منذ عشر سنوات تكفي في دول أخرى لتحقيق المعجزات، وكيف أصبحت الرقمنة مجرد شعار للاستهلاك السياسوي في إنكار تام لما حققه العالم من تقدم مذهل في هذا المجال! لم تعد هذه الحالة المزاجية العامة مسألة عرضية يمكن تجاهلها والسكوت عليها، بل هي حجر الأساس في صرح تخلفنا العظيم.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات