تعليقًا على ما صدر عن "فنانة" في حديثها عن والدها، وما تلقّفتْــه "إعلامية" واعتبرته "رأيًا"، فإنّ هذا النص يُوجَّه إليهما معًا:
في ثقافتنا، طاعة الوالدين ليست توصية أخلاقية فحسب، بل ركيزة حضارية، غُرست بالثقافة والموروث الديني وروتها الأعراف. لكن الواقع يشي بانهيار بطيء في منظومة القيم، تزداد معه مظاهر العقوق، وتتفكك الروابط، وتتحوّل الأسرة من حضن دافئ إلى ساحة صراع قاحلة…
لقد انتقلنا من علاقات "عمٌــودية" تُبنى على التبجيل والاعتبار، إلى علاقات "أفقــية" بلا تمايز ولا وقار. ترى الشاب يجادل الشيخ، والجاهل يناقش المتخصّص، والابن يخاطب أباه بندّية خالية من الاحترام. أما العقوق، فليس سلوكًا فرديًا شاذًا، بل تجلٍّ لأزمة بنيوية عميقة؛ أزمةٌ في تربية تقوم على عاطفة غير مؤطرة، في غياب دور تربوي فاعل للأب، وتضارب في مواقف الأبوين، وسط ثقافة استهلاكية تُقايض كل شيء بمقابل.
وهنا تحديدًا، ينبغي التنبيه إلى أنّ طاعة الابن لأبيه لا تُبنى بمعزل عن الأم، والعكس صحيح. فحين تُكرّس الأمّ مقام الأب وتعزّز صورته الرمزية، تُمهّد لطاعته؛ كما أنّ احترام الابن لأمّه لا يستقيم دون سندٍ رمزي من الأب.
فإذا اختلّ هذا التوازن، دفع الطرف الآخر الثمن. وقد يتحوّل هذا الخلل إلى ما يُشبه "الرشوة العلائقيّة"، إذْ يُمنَحُ الابنُ امتيازاتٍ ضمنيةً أو عينيّــة، تُشجّعه على التمرّد على أحد الوالدين، فيُستقطَبُ ضدّه، ويُغذَّى في داخله ميلُ للهيمنة والتفوّق على الطرف المُهمّش.
ومن هنا، ينشأ الطفل على مقياس المصلحة الذاتية، حيث "لكل شيء مقابل"، وتُزرع في وعيه باكرًا معادلة أنّ الولاء يُشترى، والتمرّد يُكافَــأ. وهذا منبع تكوّن الشخصية النرجسية؛ إذ لا يتشرّب الطفل روح التعاطف (empathy)، ولا يتعلّم احترام الحدود النفسية للآخر، بل يُنــمَّى فيه شعورٌ زائفٌ بالتفوّق والسيطرة. وقد يتحوّل لاحقًا إلى ما يُعرف في علم النفس بـ"القرود الطائرة"، وهي شخصيات تنشأ في حلبة الرشوة العلائقية، مُتلاعبةٌ، تُستخدم في نزاعات الوالدين كأدوات لا كأبناء، فيُجيَّشُ ضد أحدهما، فيكبر مُسلّحًا بالدّهاء، خاليًا من الضمير التشاركي، إلى أن يستدير في النهاية ضد الطرف الذي استعان به، لأنّ من لم يُروَ بالتعاطف لن يُثمر بالوفاء.
هذا، وتُفاقم الأزمة مناهج تعليم تُعلي الكمّ على الكيف، وإعلام يُروّج للسطحية والفردانية، وتشريعات حديثة اختزلت العلاقات الأسرية في قوائم حقوق وواجبات، بلا روح ولا مقام. ويُروَّج ضمنيًّا لمقولات الأساطير اليونانية القديمة، كـ"ينبغي للابن أن يقتل الأب ليصبح رجلاً"، استدعاء لأوديب لا يليق بمجتمعٍ يُفترض أن يقوم على الرحمة لا الصراع، وعلى المودّة لا الانفصال الرمزي.
إنّ ما يحدث ليس رأيًا يُناقش، بل إنذارٌ أخلاقي وثقافي. فالعقوق ليس تمرّدًا شجاعًا، بل كُــسورٌ في جدار الأسرة، وصوتٌ يُنبئ بانهيار أوسع، ما لم نُصلح ما تكسّر.
ولكُنّ (مْ) سديد النظر.