يعني تخيّل أن تلك المجموعة القومية الموجودة منذ ما قبل الميلاد .. منذ زمن الملك المؤسس قورش محرّر اليهود من السبي البابلي الشهير.. والتي عاشت طوال تاريخها الضارب في عمق الحضارة الإنسانية محن وجودية عظيمة وواجهت حضارات وإمبراطورياتك ودول قوية كانت في ذروة مجدها وإشعاعها ومنها الدولة العباسية ولكن رغم ذلك نجت واستطاعت الصمود قرون وقرون دون أن تكسرها هزائم أو تجتثها انكسارات أو هزّات أو ارتدادات أو ثورات أو اختراقات أو خيانات يمكن الآن أن ترفع الراية البيضاء وتستسلم.. مهما كانت عظمة إمبراطورية الشرّ التي تواجهها اليوم.. شخصيا لا اعتقد ذلك.. التاريخ اثبت أن الشخصية الفارسية ليست شخصية انهزامية أبدا-عكس شعوب الجوار الفارسي-ولا جبانة كذلك !!
منذ قليل قُصف مبني التلفزيون الإيراني بعد دقائق عادت المذيعة على الهواء لتواصل تقديم برنامجها.. ربما الإنسان الإيراني اعتاد دائما أن يعيش بفكرة الحرب وبأن هناك دائما رصاصة قد تأتي من الجوار..عكس شتات المستوطنين الذين القت بهم القوى الدولية ذات نكبة على شاطئ حيفا و صنعت لهم وطنا من كذبة لتتخلّص من شرورهم وهاهم اليوم يمنعون بقرار سياسي حتى من الهرب والتيه مرة أخرى!
الدهاء والعناد الفارسي الذي تحوّل الي صبر استراتيجي مع الأيام استنفذ اليوم رصيده من هامش المناورة و بات أمام حتمية المواجهة ولعب كل الأوراق دفعة واحدة.. صمتت ايران بعد قضم أصابعها بالكامل في منطقة ما يسمّى بالهلال الشيعي.. وتبدو معزولة في طوق إقليمي سنّي متواطئ بأدوار وظيفية قذرة في منطقة الشرق الأوسط.. محاصرة اقتصاديا منذ سنوات طويلة واليوم هي هدف عسكري مباشرة لأعداء جادّين في "تأديبها" رغم اختلاف طفيف بين غايات الكيان المجرم و الإدارة الأمريكية.. ولكن قد يكون ذلك الكيان هو من سيتم تأديبه بشكل قاس ومسح بلاط العالم به..
ما أقوله ليس انبهارا بالفرس.. رغم ان الحضارة الفارسية مبهرة وملهمة من قورش الى حافظ الشيرازي و صولا الى موجة التمرّد على عمامة المرشد التي فجّرتها روح مهسا اميني... بقدر ما هو قراءة خاصة لتاريخ قومية يضجّ بالأحداث.. أحداث ملهمة صنعت حضارة ودولة لا تشبه إلا نفسها .. قومية لا تتجاوز 90 مليونا نجحت في هزم كل هزائمها التاريخية.. لعبت بكل الأوراق المذهب والدين و التاريخ والحضارة و الشخصية ذات التركيبة والمزاج الخاص ونجت من كل الفخاخ!!
اليوم الكيان المجرم الذي ستلاحقه لعنة غزة الى أن تنهيه تماما يبحث عن انتصار وهمي خارج الأرض الذي احتلها وهو الذي عجز عن اقتلاع الغزاويين من أرضهم واصبح منبوذا في كل الكون.. يغرقه كل يوم ذلك السفاح الذي يقوده في الوحل اكثر فلا هو يستطيع الانتصار ولا التراجع.. عالق في وسط التاريخ والجغرافيا والأساطير التلمودية القديمة.. لذلك يسعى بجهد اليائس الى سحب ترامب للغرق معه في مستنقع الشرق الأوسط...ومرة أخرى يأتي التاريخ ليخبرنا بقصص محزنة عن رؤساء أمريكان سابقين جرّبوا اللعب في مستنقع الشرق.. لا اعتقد أن الإدارة الأمريكية تحبّذ في وضعها الراهن الاشتباك المباشر مع قوة إقليمية تملك الى جانب مشاريعها السرّية النووية، مفاتيح المعابر البحرية للتجارة العالمية من باب المندب حيث تكون السفن التجارية في مرمى نيران الحوثي بشكل مباشر الى هرمز الذي يمرّ منه يوميا 20 بالمائة من النفط المتداول عالميا..
والعالم يدرك تماما أن غلق المضيق يمكن أن يخنق النفط الخليجي ويشلّ الاقتصاد العالمي تماما وأمريكا تدرك ذلك.. وتدرك أن المحافظة على التوازن الدولي اهم بكثير من هرطقات السفاح.. هي الآن تشجعه على اللعب و تخضع الى حد ما لابتزاز اللوبي الصهيوني النافذ ولكن لن تضحي بمصالحها الدولية ولا بحلفائها الذين يدفعون بشكل جيد في الخليج مقابل ان ينتشي الكيان المجرم بتسرّب الإشعاعات النووية من احد محطات التوليد في ايران.. لن يجرؤ ذلك الكيان اللقيط على ضرب مخازن التخصيب الحقيقة تحت الأرض ما يفعله هو ضربات مدروسة لمخازن وقود حيوي لا يشكل خطورة كبيرة..
قد تكون الحرب اليوم "بيرل هاربر فارسية" ولكن أبدا لن تكون هناك هيروشيما وناكزاكي مرة أخرى.. حتى لو جنّ الكيان اللقيط اكثر مما هو عليه اليوم.. لن يفعلها.. لا يملك القدرة على فعلها.. فاستهداف منابع التخصيب الخطرة تتطلب قنابل من نوع خاص لتصل الى عمق معين وتتطلب إمدادات جوية ضخمة لن يقدر عليها إلا بمساعدة أمريكا وطبعا الأمريكان سيشدون كالعادة الوتر الى أقصاه لكن السهم لن يطلق أبدا .. وان تهوّر ترامب واطلقه فسيكون جحيما لم يشهد له العالم مثيلا من قبل.. ولن يكون هناك شبر آمن في تلك المنطقة !! والجميع يدرك ذلك جيدا..
لا يمكن أن نكون دائما الضحية الطيبة التي لا ترفع رأسها ..هكذا قال يحي بعد يأس من أن ينصف ضمير العالم الضحية.. قالها وهو يعدّ لطوفانه وكان يدرك تماما ماذا يعني الطوفان.. والطوفان عندما يبدأ لا أحد يتوقع مداه أو أين سيصل.. حيفا وما بعد حيفا ربما كما قال حسن.. صوتك كان يتردد في ذهني يا حسن وانا أراها تدكّ البارحة.. ! كأنك كنت تعلم يا حسن كما كان يحي يعلم حين اطلق السهم أول مرة.. وتركه يذهب حيث يريد ويعبر بين حياة وموت في نقطة اللاعودة واللاتدارك !
سأبقى منحازة لمن يقاوم ولمن يرفع هامته أمام الظلم و لمن يشير و لو حتى بأصبعه في اتجاه ذلك الكيان البغيض ويقول "هذا عدوّي"!