كأن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي في تونس لا تكفيهم الأحكام القاسية التي سلّطت عليهم فإذا بالتعسف والتنكيل يلاحقهم حتى وهم في السجون.
ما جرى هو أنه تم نقل كل من غازي الشواشي ورضا بلحاج وعصام الشابي، وجميعهم قيادات معارضة معروفة ومحترمة صدرت ضدّهم مؤخرا أحكام ثقيلة في ما عرف بـ«قضية التآمر»، إلى سجون أخرى بعيدة عن مقر إقامة عائلاتهم في تونس العاصمة دون إعلام مسبق، وهو نفس ما جرى مع الصحافية شذى الحاج مبارك.
الأدهى هو تفاصيل ما جرى كما كشفته العائلات، فقد روى يوسف الشواشي أنه بعد زيارة والده في سجنه الجديد علمت العائلة أن غازي الشواشي وبعد إبلاغه في سجن المرناقية بقرار نقله إلى سجن آخر رفض ذلك (وهو محام) لأن القانون يمنع نقل أي سجين لم يصدر في حقه بعد حكم نهائي وبات، لاسيما إذا كان بعيدا عن محل سكنه وسكن عائلته. عندها بعثوا له بثمانية أعوان ملثّمين فقيّدوه بالسلاسل وعنّفوه ووضعوه عنوة في السيارة وهو في حالة إغماء دون أن يدري إلى أين سيقتادونه.
هذه التطورات الخطيرة فتحت الباب ليس فقط لتدوينات وفيديوهات لأهالي من شملتهم الإجراءات لنقدها بقوة وإنما أيضا لسلسلة من الرسائل التي استطاع هؤلاء إخراجها من السجن وجميعها ذات نفس من التحدي كبير.
عصام الشابي الأمين العام للحزب الجمهوري المعارض، المحكوم عليه بـ18 عاما، بعث من سجنه الجديد ببرج الرومي، سيئ الصيت يقول «عبثًا يحاولون النيل من معنوياتنا بتشتيتنا داخل السجون تنكيلابنا وبعائلاتنا. لكن صمودنا سيظل وقودا لمشعل الحرية وستبقى قضيتنا عنوانًا للظلم والاستبداد وغياب دولة القانون والمؤسسات». وأضاف «عند نقلي إلى سجن برج الرومي تذكرت أنني زرته أول مرة وعمري 11 سنة لزيارة شقيقي ورفيق دربي الأستاذ أحمد نجيب الشابي الموقوف بتهمة الاعتداء على أمن الدولة… هكذا تكون العودة إلى الوراء أو لا تكون! ».
أما رضا بلحاج المحكوم هو الآخر بـ18 عاما سجنا، والذي كان مدير مكتب الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، فقال إنه يكتب رسالته «لا بكلمات اليأس، بل بصوت الصمود والإيمان بعدالة قضيتنا»، معتبرا أن نقله إلى سجن مدينة سليانة البعيدة عن العاصمة جنوبا بنحو مائة وثلاثين كيلومترا جاء «في محاولة جديدة لكسر إرادتي. ولكنهم يجهلون أن المسافات لا تكسر العزائم، وأنّ الزنازين لا تخنق الحقيقة»، وأن «ما يحدث اليوم ليس إلا محاولة بائسة لإسكات الأصوات الحرة، لترهيب كل من تجرأ على قول «لا» في وجه الظلم والاستبداد».
الصحافية الشابة شذى الحاج مبارك، المحكوم عليها بخمس سنوات سجنا في قضية تتعلّق بموقع إلكتروني وجهت للعاملين فيه تهم «تبديل هيئة الدولة وحمل السكان على مهاجمة بعضهم البعض بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي، بالإضافة إلى تهمة ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة»، والتي تعاني أوضاعا صحية ونفسية صعبة للغاية لم تشفع في الإفراج عنها رغم نداءات منظمات الصحافة الدولية، فلم تسلم هي الأخرى من هذا الإجراء التعسفي المباغت، فنقلت إلى سجن بعيد عن مقر سكناها مما سيزيد من معاناة أمها التي لم ينصت أحد لنداءات استرحامها الكثيرة.
المحامي سامي بن غازي، المعروف بدفاعه عن قضايا الحريات وحقوق الإنسان كتب يقول عن كل ما حدث «إنّ إبعاد السجين عن أسرته لا يُختزل في مجرد تغيير لموقع الاحتجاز، بل هو وجع إضافي يُلقى على كاهل العائلة، يتسلّل إلى تفاصيلها اليومية ويثقل أنفاسها: أمّ تُرهقها الطرقات الطويلة، وزوجة تقاسي مرارة البُعد، وأبناء يُربّون على الغياب ويكبرون على حرمان اللقاء، وإخوة تزداد المسافة بينهم وبين من يحبّون». ويضيف أنه «حين يُنقل الموقوف إلى سجن يبعد مئات الكيلومترات (…) فإنّ الضرر لا يطال السجين وحده، بل يمتدّ إلى المحامي نفسه، الذي يُجبر على هدر الساعات في الطرقات، ويتعذّر عليه التواصل الدوري مع موكّله، وتتقلّص قدرته على متابعة الملف كما ينبغي. بهذه الطريقة، لا يُقيّد السجين فقط، بل يُقيَّد حقّ الدفاع في أعمق تجلياته».
مشهد مؤلم، يضاف إليه ما تعانيه مثلا المحامية والإعلامية سنيا الدهماني من تضييقات مخجلة في سجنها، وما خفي قد يكون أعظم، لم يصدر عن السلطة، التي لم يعد كثير يتردّدون في وصفها بسلطة الأمر الواقع، ما يحاول تفسيره ولا حتى تبريره. كل هذا يعمّق الإحساس المرير بأنها سلطة لا تقيم وزنا لرأيها العام ولا لحق الموطنين في فهم ما يحدث في بلادهم، سلطة يحرّكها التشفّي بمزاجية مريضة لا أكثر ولا أقل، ولا ندري بالضبط من أمر بكل هذه التجاوزات التي تزيد في تشويه صورة تونس داخليا وخارجيا.
مشهد لخّص المحامي سمير ديلو الذي يدافع عن كثير ممّن ذكرنا، ووزير حقوق الانسان السابق بعد الثورة، طبيعة المرحلة التي يتنزّل فيها فقال: «لكلّ مرحلة عنوان، كان عنوان مرحلة بن علي: التّعذيب، وعنوان مرحلة الانتقال الدّيمقراطي المغدور: حرّيّة الفوضى وفوضى الحرّيّة، ولا شكّ لديّ في أنّ عنوان المرحلة الحاليّة هو: الظّلم».