نتابع مثل بقية خلق الله العاجزين ثورة الطلاب الأمريكيين مع غزة؛ ويفرض علينا سؤال نفسه: أين الجامعات العربية والطلاب العرب؟ ويزداد السؤال إلحاحا عن الجامعة التونسية وطلابها، ويتسع السؤال إلى مسألة جوهرية: ماذا فعلت النخب العربية بالجامعات وبالطلاب الذين سجل لهم التاريخ سوابق في النضال من أجل فلسطين منذ عقود طويلة؟
الطلاب الأمريكيون ينبهوننا إلى نكوصنا
غزة تدخل الشهر السابع من حربها، وبعيدا عن الرهط الرسمي العربي المخذل سمعنا اتفاقا كاملا من كل الفئات السياسية والاجتماعية على شرعية المعركة وعلى ضرورتها أيضا، فهي معركة تحرير لم يبق للفلسطيني خيار غيرها بعدما جنح إلى السلم فلم يقبل العدو سلمه وظل يدفعه إلى الاستسلام.
انطلقت في بداية المعركة حركة تضامن عامة سرعان ما خبت في الشوارع وخبت قبل ذلك في الجامعات والثانويات، ولم يبق إلا التفاعل الافتراضي المحدود مع كثير من المشاعر المشفقة على الضحايا. عاد الناس إلى شواغلهم وبقيت المعركة في القنوات التلفزية، والجميع يتألم ثم يتأفف ثم يغير القناة.
فجأة ننتبه إلى وصول المعركة إلى داخل الجامعات الأمريكية وانتشار حركة تضامن طلابي واسعة مع القضية بشعارات إنسانية غابت عن الجامعات العربية ونخب السياسة المحلية. نشعر بفخر غريب أن أثارت قضايا العرب وفي مقدمتهم غزة كل هذا الحراك التضامني العالمي وفي قلب ماكينة صناعة النخب الأمريكية، لكن نشعر بالتوازي بألم كبير سببه صمت أهل القضية أنفسهم. الجميع الآن يسأل: أين الطلاب العرب من قضية غزة؟
نسمع مبررات كثيرة عن الانشغال بفترة الامتحانات مع بداية شهر أيار/ مايو والتي ستمتد إلى شهر حزيران/ يونيو قبل أن تدخل الجامعات في سباتها الصيفي إلى شهر تشرين الأول/ أكتوبر، لكن أين كان الطلبة ونخبة الجامعة قبل فترة الامتحانات؟ أي كانوا طيلة العام الدراسي الذي انطلق بالتوازي مع انطلاق معركة الطوفان؟ لقد ساد الصمت والترقب في كل مكان إلا نزر يسير شارك مع عموم الناس في مظاهرات صغيرة ومحدودة، بما يكشف موات الجامعة ونخبتها والتي هي نظريا نخبة قائدة وعليها مسؤوليات أخلاقية وسياسية.
ماذا أصاب الجامعات العربية؟
تابعنا الحراك الأردني والمغربي وهما البلدان اللذان لم يقصرا في الشارع حتى الآن، ورأينا الطلبة ضمن صفوف الناس في الشوارع لكن بصفتهم مواطنين لا طلبة لهم وضع خاص ومكانة متميزة في الحراك السياسي منذ تأسيس الجامعات. عذرنا للجامعة المصرية صمتها، فهي تقع تحت آلة قمع كافرة بالإنسان، ولم ننتظر أبدا حراكا طلابيا في جامعة الخليج (السمينة)، لكن أين طلبة الجزائر وتونس حيث توجد هوامش حرية تسمح بحركة على الأقل داخل الحرم الجامعي؟ رغم أنه ليس أقدر من الشباب الطلابي على اقتحام الشوارع وفرض الأجندات التضامنية، ولجامعة تونس تقاليد قديمة في ذلك تعود إلى مرحلة تأسيسها.
وجب أن نبرز هنا عنصرا مهما ومؤثرا يظهر لنا من متابعة حراك الطلاب في أمريكا، هذا الحراك البعيد في الجغرافيا عن غزة بعيد أيضا عن طبيعة النخب في الجامعات العربية؛ هناك يشارك يهود ومسلمون ومسيحيون في الحراك بلا عقد مذهبية أو دينية، ويشارك أبناء النخب المالية والسياسية بكل قوة في هذا الحراك، الشيء الذي أثار الكونجرس النخبوي والسياسي فخرج يتهم الحراك بالتهمة الجاهزة دائما وأبدا: معاداة السامية.
الحراك الطلابي الأمريكي الذي نشاهده غير مخترق بأفكار استئصالية مما نجد في الجامعات العربية، لذلك فهم المعركة والتحق بها من موقع إنساني نضالي لا يحسب حسابات فئوية رغم تنوعه العميق.
هذه القدرة على الخروج من القواقع الفئوية رغم عمقها الديني لم تتيسر في الجامعات التونسية والعربية التي تديرها نخب متنورة تزعم التقدمية، وهذه النخب مسكونة في تقديري بأدواء الاستئصال التي عبرت عن نفسها بالقول إن معركة غزة هي معركة إخوانية (إسلام سياسي)، وبالتالي فإن كل تضامن معها بتحريك الطلاب أو السماح لهم بالحركة التلقائية يصب بالضرورة في سلة الأحزاب والجماعات الإسلامية ويمكِّنها من التحكم لاحقا في الأجسام الطلابية الهشة فكريا، وكل حراك طلابي لن تكون له نتيجة إلا تقوية مواقع الإسلاميين في بلدانهم باعتبار أن حماس التي تقود المقاومة هي حركة إخوانية. من هنا جاء كيد النخب لغزة ولمعركتها المشروعة؛ عبر تضخيم مبررات الانشغال بالامتحانات وتكملة المقررات الكثيفة.
إننا نجد تطابقا بين تنويم الجامعات والطلاب وبين الردة عن الربيع العربي، فهي تستعمل نفس المبررات للردة عن مشاريع التحرير ومشاريع بناء الديمقراطية التي وضعها الربيع العربي على طاولة النخب، فلم تُخلص لها ونكصت على أعقابها عند أول انتخابات وفرت فرصة لمشاركة الإسلاميين في إدارة بلدانهم.
لقد أعادت معركة الطوفان ملف التحرر من الاستعمار الصهيوني خاصة والغربي عامة إلى النقاش، ولكن فهم بسرعة أنها معركة يمكن أن تزيد في قوة الإسلاميين لذلك وجب التخلي عنها وممارسة التعمية باسم النجاح الدراسي.
هناك الحرية قبل النجاح رغم أن الدرس مدفوع الأجر وليس درسا في جامعة عمومية شبه مجانية، وهنا محاربة الإسلاميين أو إغلاق الطريق أمامهم مقدم على الحرية. وهذا درس بالغ الأهمية تقدمه لنا الجامعات الأمريكية التي أزعجت بسرعة فائقة النخب السياسية الموالية للكيان المحتل.
إن صمت نخب الجامعة وتنويم الطلاب هو تخل واع عن الحرية والديمقراطية لأنها تخدم الإسلاميين (بما في ذلك الترحيب بالانقلابات العسكرية والدفاع عنها). وهذا الداء كامن في العقول لا نرى له أفقا إلا خراب الجامعة وتسطيح وعي الطلاب بقضاياهم، بحيث ينتهون إلى موظفين منكبين على خبزهم اليومي.
في مقعد المتفرجين
عندما مررنا بالجامعة طلبة كانت قضية فلسطين مقدمة على مطالبتنا بتحسين ظروف دراستنا التعيسة، وكان زهدنا موضع فخر، وكان أستاذتنا يتركون لنا هوامش نقاش واسعة في فصولهم ولا يعترضون على غيابنا عن الدروس ويعوضون الدروس كما يتيسر لهم وللمؤسسات؛ لم نتخرج جهلة بل تخرجنا بوعي بقضايانا الأصلية. في هذه المرحلة نخشى أن نوسع النقاش في الفصول خوفا من طلبتنا الذين يصمتون، فلا نعرف هل يقبلون منا ما نقول أم يدبجون تقارير لجهات خارج الفصل. وقد ركبنا هذا الخوف منذ زمن بن علي وعاد لنا بالانقلاب على الديمقراطية، بل إننا في وضع أشد تعاسة نحن نخشى بعضنا البعض كمدرسين. ففتح نقاش في الفصل حول غزة يؤدي مباشرة إلى اتهام بالأخونة وتحريف وعي الطلاب وإدخال السياسة في الدرس العلمي، وهي تهم تقطع الرزق وتفتح باب السجون.
لذلك نجلس اللحظة على مقعد المتفرجين على الجامعات الأمريكية وطلابها الذين يقودون عملا ليس أقل من ثورة وعي ستكون حتما أبلغ من الوعي بحرب فيتنام، ونحوقل متمنين معجزة ربانية تحررنا من خوفنا ومن عجزنا بل من جبننا التاريخي وقد فتحت أمامنا معركة تحرير فارتددنا على أعقابنا خوف الأخونة. إنها حالة من تسول النصر بغير أسبابه وبغير أدواته وبغير أهله؛ سأسميها باسمها الحارق إنها حالة من نكاح الاستبضاع.