التّونسيّ المتواطئ ضدّ نفسه

Photo

لا شيء يحيّرني قدر الشّخصيّة التّونسيّة وأنا منها.. لم أعد أفهمها وأفهم نفسي ولم يعد كتاب: الشّخصيّة التّونسيّة كافيا لفهمها. نحتاج كتبا ومجلّدات وتآليف وتصانيف.. ونحتاج علماء اجتماع وعلماء نفس وخبراء غير خبراء التّلفاز حتّى ندرك قليلا طبيعة هذه الشّخصيّة.. لا ليس جلدا للذّات بل هي تأمّلات في الذّات وأنا أرى التّونسيّ يوغل في ما لا يريد ويقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يرضى.

نقول دائما أنّ الآخرين يتواطأون ضدّنا.. الآخر الجحيم.. الآخر غرب المؤامرة.. الآخر الذّي جهّلنا وفقّرنا وصحّرنا .. ولكن ماذا لو فكّرنا قليلا ألا نتواطأ ضدّ أنفسنا أيضا؟

ندعو إلى مقاومة الرّداءة ثمّ نغرق في برامج الإسفاف والقمار والابتذال ونقضّي الوقت بعد ذلك في التّعليق والتذمّر في هذيان جماعيّ محموم وهيستيريا تحطّ من قيمة الإنسان مشاركا ومشاهدا.

في حين نمرّ على البرامج الجادة والكتب الجادّة والمقالات الجادّة مرور الكرام فلا نلقي لها بالا ولا يحظى أيّ برنامج ثقافيّ أو فكريّ بكلّ هذا الاهتمام وكلّ هذا الجدل وكلّ هذا الوقت.. لو فعلنا لكنّا فكّرنا قليلا وتحرّرنا من ردود الفعل البافلوفيّة التّي حوّلت سلوكنا الجماعيّ إلى انعكاسات شرطيّة واستجابات لمنبّهات خارجيّة غير جديرة بالاهتمام لكنّها تملك كلّ السّيطرة على عقولنا وأذهاننا.

لقد ظلّت برامج الإثارة هي المتحكّمة في العقل التّونسيّ الذّي لم يستطع حتّى الآن أن يضع عادات ثقافيّة تحصّنه وتجعله صاحب رأي وموقف.

نغرق في مناقشة الأشخاص ونأبى مناقشة الأفكار والمشاريع والرّؤى فنسقط في حديث الشّيء المعتاد.. تشهير وتشنيع وهتك للأعراض. هدر للوقت والطّاقة وإفراغ للفكر وتعطيل لفعاليّات العقل القادر على صياغة تصوّرات للآتي بدل الغرق في مستنقع الآني. البحث عن إيذاء الآخر بكلّ السّبل والأدهى أن يصبح الإيذاء فعلا مقصودا ضدّ من يسعون إلى إلقاء بعض البذور في هذه الأرض المجدبة.

ننقد المعارضة المشتّتة ثمّ نأبى أن نلملم شظايانا ونظلّ نتمسّك بألهتنا التّي تأبى السّقوط ونعيد إنتاج نفس المأساة ونظلّ ندور في حلقة مفرغة من غياب التصوّر والبرنامج نتآكل ونتآكل حتّى ننتهي.

.في أغلب ممارساتنا نعيد إنتاج القديم ولا نسعى إلى الجديد المغاير وليست لنا شجاعة كسر الأنساق وهدم ما ورثناه واعتدناه فإذا بنا نعيش كلّ يوم خسارات جديدة في حين تنتصر الردّة السّياسيّة والثّقافيّة وتسجّل انتصارات جديدة لها.

وسط هذا لا تلقى الأقلام الجادّة والمثقّفين الحقيقيين ما يكفي من الاهتمام بل تكابد وسط الرّداءة وظاهرة خبراء البلاتوات تهميشا فتكتفي بالحدّ الأدنى حتّى يجفّ الحبر فتصمت تدريجيّا وتعيش خيباتها الأزليّة.

معركتنا الأعسر هي معركتنا مع القديم داخلنا، مع الرّداءة داخلنا، مع السّطحيّة والتصحّر: ذلك الذّي يقيم في وعينا ولاوعينا ويسكن قاع الذّات ويدفعنا إلى السّلبيّة والرّكون إلى الرّاحة الفكريّة و " التّقاعد " السّياسي والثّقافيّ بالإبقاء على نفس التصوّرات والممارسات ومعاداة كلّ نفس جديد وبارقة أمل.

الدّخول إلى التّاريخ لا يكون بتكرار الشّيء المعتاد.. الدّخول إلى التّاريخ يحتاج مغامرة كبرى وأرواح شجاعة وأنفس متحرّرة لا تتواطأ ضدّ نفسها وإنّما ضدّ أعداء حقيقيين لها. يكون بصياغة المشاريع وتفعيلها بدل الغرق في الترّهات التي تستنزفنا.

يكفي المتواطئون حولنا حتّى نضيف إلى ذلك تواطؤنا ضدّ أنفسنا.. « سنصيرُ شعباً , إن أَردنا , حين نعلم أَننا لسنا ملائكةً , وأَنَّ لشرَّ ليس من اختصاص الآخرينْ » ( محمود درويش)

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات