هل انهزم المعلمون وانتصرت الوزارة ؟ : محاولة لمواجهة المسكوت عنه

الآن انتهت « معركة » حجب الأعداد في التعليم الاساسي بعد أن قرر المعلمون عبر هيئتهم الادارية رفع الحجب دون التوصل الى اي اتفاق مع وزارة التربية . وقد تكون الوزارة انتصرت فيها وانهزم المعلمون غير أن بعض الانتصارات ما أشبهها بالهزائم !. فمن يعتقد انه انتصر على المعلمين فهو واهم لأن الهزيمة لن تلحق بالمعلمين ولا حتى بالجامعة العامة للتعليم الأساسي أو الاتحاد العام التونسي للشعل فذلك جزء صغير من جبل الجليد الذي يخفي الكارثة القادمة التي بدأنا نرى بوادرها منذ مدة طويلة وهو خراب صورة المعلم التي هوت إلى الحضيض بفعل التحريض عليه وعلى نضالاته في مجتمع لم يعد للتعليم فيه تلك المكانة المرموقة وخاصة التعليم العمومي الذي يعيش أتعس حالته فهو متروك للفوضى والإهمال في مدارس تفتقر أحيانا الى أبسط الظروف التي تحتاجها المدرسة لتؤدي وظيفتها. وتلك مسألة أخرى يلزمنا معها حديث خاص .

نريد هنا أن نتوقف عند هذا الشكل من النضال الذي يسمى »« الإضراب الإداري » عند قانونيته ومآزقه وجدواه .. تلك مسائل قليلا ما نخوض فيها بل لعلنا تجنبنا الخوض فيها لأسباب كثيرة ربما منها الطبيعة القانونية الملتبسة لهذا النوع من الإضراب خاصة في غياب أي فقه قضاء عدلي او اداري ينير سبيلنا في تحديد شرعية أو عدم شرعية هذا الشكل من « الامتناع عن العمل ».

(1 الجامعيون والإضراب الإداري

تحدثنا في مقال لنا سابق [1]عن تاريخ هذا الشكل من النضال النقابي و ذكرنا في مقالنا أن تونس لم تعرف قبل 2011 أي شكل من أشكال ما يعرف ب« الإضراب الإداري » ( الامتناع عن إصلاح فروض المراقبة أو الامتحانات السداسية ..أو الإصلاح ولكن الامتناع عن تسليم الأعداد للإدارة حتى تسلمها للأولياء أو أي أعمال إدارية أخرى ) . عدا مثالا واحد ا وهو الإضراب الإداري الذي نفذه الجامعيون سنة 2005 ( امتنعوا عن إصلاح امتحانات الدورة الرئيسة فلم تعلن نتائج الدورة فاستحال بذلك المرور الى دورة المراقبة )اي دورة التدارك ) ولم يكن وراء هذا الإضراب مطالب مادية من أي نوع كان بل كان متعلقا بأزمة التمثيل النقابي في الجامعة .. ولم يقع تقييم هذا الإضراب من قبل الجامعيين ولا استخلاص النتائج منه لا على مستوى انخراط الجامعيين فيه و لا على مستوى نجاعته كشكل من أشكال النضال النقابي . رغم انه كان لزاما وقتها التفكير بجدية حول معاني هذا الشكل النضال القصووي الذي يجعل المتعلمين والمجتمع بأسره تقريبا طرفا في الصراع . خاصة وان هذا الإضراب انتهى وقتها بتسلم أكثر من تسعين بالمائة من الجامعيين أوراق الامتحانات من الإدارة لإصلاحها ) البعض فعل ذلك خلسة حتى لا يتفطن إليه أحد ) وانتهت عملية الامتناع عن إصلاح امتحان الدورة الرئيسة بتراجع النقابة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي كما كانت تسمى وقتها عن قرار الامتناع عن الإصلاح بعد أن لجأ نظام بن علي إلى حجب شهر جوان وقتها عن الأساتذة المضربين ..لا مجال هنا إلى أن نستعرض بالتفصيل ما آلت إليه الأزمة وقتها ونهايتها بهزيمة سيئة من أحقاد وضغائن داخل القاعدة الأستاذية الجامعية فقد أفسدت « الهزيمة » كثيرا من الصدقات وتركت في الجسم الجامعي جراحا لعلها لم تندمل أبدا .

2) التوسع في استعمال الإضراب الإداري في الأساسي والثانوي

استجد هذا الشكل من النضال النقابي في التعليمين الأساسي والثانوي بعد الثورة فلا تكاد تخلو سنة مدرسية منذ 2011 من خلاف بين جامعتي التعليم الأساسي والثانوي وبين وزارة التربية .ولا يكاد يخلو عام من اللجوء إلى التلويح بمقاطعة العودة المدرسية أو حجب الأعداد أو التهديد بمقاطعة الامتحانات . ويظل الأولياء والتلاميذ يعيشون الخوف من السنة البيضاء في ما يشبه الكابوس المزمن الجاثم على الصدور بل توسع ليشمل نقابات أخرى من نقابات قطاع التربية. فقد قررت الجامعة العامة للقيمين والقيمين العامين مقاطعة كل عمل إداري وتربوي وبيداغوجي له صله بشؤون التلاميذ بداية من 28 فيفري 2020 بما في ذلك حجب دفاتر المناداة وعدم إسناد شهائد الحضور، وفق ما أعلنته الجامعة وقتها في بلاغ لها اثر انعقاد لقاء الجهات التابع له .كما قررت الجامعة أيضا عدم رفع الغيابات وعدم الإعداد والحضور لمجالس الأقسام والاقتصار على التأطير والمرافقة والإصغاء بداية من التاريخ المذكور وجاءت قرارات الجامعة ردّا على ما اعتبرته « إصرار رئاسة الحكومة على عدم تفعيل محضر اتفاق 8 ماي 2018» وعدم التفاعل الجدي مع اللائحة المهنية الصادرة عن الهيئة الادارية القطاعية بتاريخ 11 فيفري.

كانت كل الأزمات السابقة تنتهي إلى حل يفضي إلى تحقيق مطالب النقابات وهي في معظمها مادية تتعلق بتحسين الوضع المادي للمعلمين أو الأساتذة أو القيمين إما لان وضع البلاد كان يسمح بزيادات في الأجور في الحدود التي يفضي إليها التفاوض وكان في أكثر الأحيان طويلا وعسيرا يعيش على وقعه التلاميذ والأولياء خوفا من السنة البيضاء كما قلنا أو لأن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة كانت تلجأ لأسباب سياسية بحتة إلى إرضاء النقابات القطاعية ومن ورائها الاتحاد العام التونسي للشغل حتى ولو كانت هذه الزيادات على حساب التوازنات المالية للدولة. ومع الأسف كانت كثير من الحكومات بعد الثورة تورط الحكومات اللاحقة في اتفاقيات تعجز هذه الأخيرة عن تنفيذها إما برفض نشرها في الرائد الرسمي أو برفض الالتزام بها حتى لو كانت نشرت مما يجعلها ملزمة قانونيا للطرفين الموقعين . هذه النهاية » السعيدة » في كل المعارك السابقة لم تجعل أحدا يفكر جديا في هذا الشكل من النضال أي الإضراب الإداري إذ أن الأمور لم تؤل إلى ما ألت إليه هذه السنة من نتائج سيئة ومنها : .

• اتفاق جامعة الثانوي مع الوزارة اتفاقا ألغي بموجبه قرار حجب الأعداد قي الثانوي لكن هذا الاتفاق اعتبره الكثيرون خيانة للقطاع وللنضال النقابي إذ كان وراؤه بحسب كثير من الأساتذة كاتب عام وهو لسعد اليعقوبي مورط سياسيا مع وزير التربية ونظام 25 جويلية بما يعنيه ذلك من الخراب الذي قد يلحق العمال النقابي حين تدب في صفوف النقابيين فكرة خيانة القيادة للقاعدة ومطالبها.

• عدم قبول جامعة الأساسي لنفس الاتفاق المتوصل اليه في الثانوي ولجوء السلطة إلى عدم صرف أجرة جويلية إلى المعلمين مما أدى الى انهيار العملية النضالية برمتها بتسليم الغالبية العظمى من المعلمين للأعداد وهكذا حصل مع الأسف في الأساسي بالضبط ما حصل في 2005 في التعليم العالي .

• انهيار صورة الاتحاد الذي بدا اضعف بكثير مما كان يروج عن نفسه من قوة فرغم الهيئة الإدارية الوطنية المنعقدة لمناصرة المعلمين وكلمات المساندة من المركزية إلا أنها لم تتخذ أي قرار فعلي للوقوف مع المضربين المحرومين من أجورهم والمديرين المعفيين من الخطة ..وكذلك بقية القطاعات التي بادر الكثير منها بإصدار بيانات مساندة بدت بلهاء وسط هجمة السلطة على القطاع وهجمة الوزير المسؤول النقابي السابق على المعلمين بشكل يخفى حماسا زائدا عن حده فلعله ثأر الأمين العام السابق من مكتب تنفيذي وطني لفظه ربما في صلة برفض البوغديري لتنقيح الفصل 20 من القانون الأساسي للمنظمة وربما لصراعات داخلية محورها في معظم الأحيان توزيع المسؤوليات داخل المكتب وأساسا الأمانة العامة في اتحاد نخره فساد الرأي الذي قاد إلى اكبر هزيمة ألحقتها المركزية بصورة المنظمة من خلال الاعتداء الصريح على قانون الاتحاد من خلال تحوير الفصل 20 .

• في خلاصة لا حد على حد علمنا توقف عند الإضراب الإداري بعد هذا الذي حدث ليفكر في وضعه القانوني أولا ثم ليرى مدى نجاعته عندما يستعصي الحل ثم ليتوقف عند فشله بمجرد لجوء السلطة إلى المس من الأجر .ولذلك فإننا سنحاول في هذا المقال أن نفتح باب التفكير في بعض هذه المسائل في انتظار أن تقيم النقابات هي بنفسها النتائج المترتبة عما آلت إليه الأمور في التعليم الأساسي بعد القرار الذي اتخذته الجامعة العامة للقطاع بالتراجع عن قرار حجب الأعداد دون التوصل إلى أي اتفاق مع وزارة التربية.

3) شروط الإضراب القانوني

لنفهم الوضع القانوني للإضراب الإداري بصفته إضرابا عن العمل يجب أن نفهم أولا الوضع القانوني للإضراب عموما باعتباره حقا دستوريا ولكنه خاضع لبعض الشروط التي يحددها القانون.

ينص الدستور التونسي لسنة 2014 ( نفضل الإحالة على هذا الدستور دون غيره لأسباب ليس هذا مجال شرحها ) في الفصل 36 على أن »الحق النقابي بما في ذلك حق الإضراب مضمون » غير أن القوانين الجاري بها العمل تنظم هذا الحق.

وتوضح المنظومة القانونية النافذة في تونس تفاصيل هذا الحق وهي ملزمة ما لم تتعارض مع جوهر ممارسة هذا الحقّ الدستوري.

ينص الفصل 376 مكرر من مجلة الشغل (أضيف بالقانون عدد 84 لسنة 1976 المؤرخ في 11 أوت 1976 على أن كل قرار بالإضراب أو بصد العمال عن مباشرة عملهم يجب أن يسبقه تنبيه بعشرة أيام يوجـه من قبل الطرف المعني إلى الطرف الآخر وإلى المكتب الجهوي للتصالح أو إن تعذر ذلك إلـى التفقديـة الجهوية للشغل المختصة ترابيا .بيد أن سريان مفعول التنبيه المسبق يكون بداية من إشعار المكتب الجهوي للتصالح او التفقدية الجهوية للشغل.

كما ينص الفصل 376 ثالثا (أضيف بالقانون عدد 29 لسنة 1994 المؤرخ في 21 فيفري1994) على انه من الضروري أن يوجه التنبيه المسبق في نفس الوقت إلى الجهات المعنية عن طريق رسالة مضمونة الوصول مـع الاعلام بالبلوغ.

ويجب أن يتضمن التنبيه المسبق البيانات التالية :

– مكان الإضراب أو الصد عن العمل.

– تاريخ الدخول في الإضراب أو الصد عن العمل.

– مدة الإضراب أو الصد عن العمل.

– سبب الإضراب أو الصد عن العمل.

كما ينص الفصل نفسه على انه يمكن لطرفي النزاع خلال فترة التنبيه المسبق، الاتفاق على تأجيل تاريخ الدخول في الإضـراب أو الصد عن العمل و إذا ورد تنبيه ثان خلال مدة سريان التنبيه الأول فإن هذا الأخير يعتبر لاغيا.

4 ) الإضراب غير القانوني معرض للعقاب الجزائي والإداري

إن كل إضراب يخالف ما وقع عليه التنصيص بالفصول السابقة من مجلة الشغل يتعرض إلى المعاقبة الجزائية. فمن الضروري أن تتقيد الإضرابات بالشروط المذكورة أعلاه وفي حالة عدم التقيد فان منفذيها يعرضون أنفسهم إلى العقوبات المنصوص عليها بمحلة الشغل اذ ينص الفصل 388 من المجلة: (نقّح بالقانون عدد 77 لسنة 1973 المؤرخ في 8 ديسمبر1973 ) على انه عندما يكون الإضراب أو الصد عن العمل مخالفين للقانون فإن »كل من حرّض على مواصلة الإضراب أو الصد عن العمل أو شارك فيهما يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين ثلاثــــة أشهـــــر وثمانية أشهـر وبخطية تتراوح بين 100 دينار و500 دينار.وفي صورة العود تضاعف هاتان العقوبتان » كما ينص الفصل 136 من المجلة الجزائية على انه « يعاقب بالسجن مدة ثلاثة أعوام وبخطية قدرها ثلاثة آلاف فرنك كل من يرتكب بالعنف أو الضرب أو التهديد أو الخزعبلات منع فرد أو جمع من الخدمة أو يحاول إبطالها أو استمرار إبطالها. » كما ينص الفصل 137 على »أن كل من يتعمد بقصد التعدي على حرية الخدمة إفساد أو محاولة إفساد بضائع أو مواد أو ماكينات أو أسلاك ناقلة أو مولدة للقوة المحركة بدواليب الخدمة أو غير ذلك من الآلات والوسائل المعدة للصنع أو التنوير أو للنقل أو للاستقاء يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها ألف فرنك».

وينضاف الى الجانب الجزائي العقوبات الإدارية الذي يمكن للإدارة أن تتخذها في حق المضربين الذين لا يلتزمن بالقانون ومنها الطرد .

5) الإضرابات القانونية ومبدأ العمل المنجز

إن الإضرابات الخاضعة للقانون والملتزمة بالقواعد المرعية ليست خالصة رغم ذلك خالصة الأجر بل هي فقط غير معرضة إلى العقوبات الجزائية او الادارية السابقة وذلك التزاما بالمبدأ الدستوري الذي يضمن الحق في الإضراب في نطاق الضوابط المذكورة . فقد أصدرت المحكمة الإدارية رأيها الاستشاري في موضوع عدم استحقاق أيام الإضراب للأجر بتاريخ 23-12-2015 تحت عدد640 وقالت بأنّ استحقاق الأجر يرتبط بإنجاز العمل وأنّ عدم إنجاز أيّ عمل خلال الإضراب يبرّر اقتطاع المبالغ الموافقة لفترة التوقف عن العمل.وعلّلت المحكمة موقفها بأنّه وبالرجوع إلى أحكام الفصل 36 من الدستور التونسي لسنة 2014 يتبيّن أنّ « الحق النقابي بما في ذلك حق الإضراب مضمون »وأنّ ممارسة هذا الحقّ تقتضي عملا بأحكام الفصل 49 من الدستور سنّ قانون يحدّد ضوابط ممارسة هذا الحقّ بما لا ينال من جوهره و« يحدّد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. …وفي غياب نصّ قانوني حتى الآن ينظّم ضوابط ممارسة حقّ الإضراب بالنسبة إلى أعوان الدولة، فإنّ الأحكام الواردة بالمنظومة القانونية النافذة تبقى ملزمة ما لم تتعارض مع جوهر ممارسة هذا الحقّ. وعليه، فإنّ الإضراب يعدّ تركا إراديّا للعمل وتخلّيا عن ممارسة المهامّ الموكولة إلى العون العمومي المنصوص عليها بالفصل السادس من قانون الوظيفة العمومية وكذلك بالأنظمة الأساسية الخاصّة المنطبقة عليه والتي تمنح الموظف الحقّ في المرتّب. وطالما أنّ القاعدة القانونية في المحاسبة العمومية هي استحقاق الأجر بمقدار العمل المنجز، فإنّ عدم إنجاز أيّ عمل خلال الإضراب يبرّر اقتطاع المبالغ الموافقة لفترة التوقف عن العمل وهي قاعدة محاسبية لا تعدّ عقوبة إداريّة ولا يمكن أن تعدّ تعطيلا لممارسة حقّ الإضراب باعتبارها توازن بين فصلين من الدستور الأوّل يتعلّق بإقرار حق الإضراب (الفصل 36) والثاني يتعلّق بحسن التصرّف في الأموال العمومية وعدم إهدارها وضمان استمرارية المرفق العامّ (الفصلان 10 و15).

وانتهت المحكمة بذلك إلى أنّ الإدارة تكون محترمة للأحكام الدستوريّة عندما تقتطع النسبة المعادلة لأيّام الانقطاع عن العمل للأعوان المعنيين بعنوان عمل غير منجز خلال مدّة الإضراب، شريطة أن لا يكون هذا الاقتطاع آليّا وعامّا وذلك بأن يسلّط حصرا على الأعوان الذين امتنعوا عن إنجاز العمل المكلفين به خلال مدّة العمل المنصوص عليها بمختلف التراتيب المنظّمة لتوقيت العمل بالإدارات العمومية كلّ حسب السلك الذي ينتمي إليه .

هذا الاتجاه الذي ذهبت إليه المحكمة الإدارية في تونس هو نفس اتجاه القضاء الإداري المقارن والمبادئ الشغلية الدولية التي كرّست على غرار القضاء الإداري التونسي شرعية الاقتطاع من أجور الأعوان المضربين متى ثبت عدم إنجازهم للواجبات المحمولة عليهم فضلا عن أنّ أغلب المعاهدات الدولية تسير في نفس الاتجاه.

فإذا انطلقنا من أمثلة قانونية قريبة منا وجدنا أن القضاء المغربي أقر في عدة مناسبات مبدأ العمل مقابل الأجر في العلاقة الشغلية، ونذكر على سبيل المثال قرار محكمة النقض رقم 1581 الصادر بتاريخ 10 يونيو 1991 في الملف الاجتماعي عدد 1-5-2003-124، الذي ورد فيه ما يلي « إغلاق المؤسسة بسبب الإضراب يجعل الأجير غير مستحق للأجرة لكونها لا تؤدى إلا عن العمــل الفعلي».

وتجدر الإشارة أيضا وعلى المستوى الدولي أن لجنة الحريات النقابية في مجلس إدارة منظمة العمل الدولية سبق أن أكدت مبدأ العمل مقابل الأجر حينما أقرت شرعية الاقتطاع من الأجور أيام الإضراب، ونصت على أن ذلك لا يشكل خرقا لمبادئ الحريات النقابية، في كثير من تقاريرها.

6) أين نضع الإضراب الإداري ضمن الحق النقابي ؟

لنبدأ أولا باختبار مدى انسجام الإضراب الإداري مع القوانين والقواعد المرعية في كل إضراب :

• لم يصل إلى علمنا أن قرار حجب الأعداد أرفق ببرقية إعلام إلى الجهات المعنية وهو لذلك لا يتضمن كتابيا أي تاريخ لبدايته أو تاريخ لنهايته مما يجعله إضرابا مفتوحا له بداية واقعية ( دون إعلام رسمي) معلومة ولكن لا احد يعلم متى يقع رفعه لان المسالة مرتبطة بالتفاوض . لا احد فكر فعليا من النقابيين حول النتائج المترتبة عن عدم الوصول إلى اتفاق وحول ما يمكن أن يترتب عن تواصل الإضراب الى العطلة المدرسية السنوية من نتائج ومنها السنة البيضاء التي قد تكون محتملة في التعليم الأساسي لعدم وجود أي امتحان وطني ( زال هذا الامتحان مع زوال شهاد ة السيزيام في شكلها الإجباري القديم والذي كان يمثل المدخل إلى التعليم الثانوي بصيغته القديمة ) ولكنها مستحيلة استحالة مطلقة في التعليم الثانوي لأنه لا احد يتصور إمكانية إلغاء أو تأجيل امتحان الباكالوريا لاحتياجه إلى وجود دفتر أعداد كان ضروريا دائما لإمكانية إسعاف التلاميذ الحاصلين على معدل عام بين 9 و10 وهو إسعاف يراعى فيه نتائج التلميذ خلال السنة المدرسية التي يجب ان تكون معلومة من التلاميذ والإدارة.

• رفض المركزية في كثير من الأحيان ممثلة في الأمين العام المساعد الحاضر في الهيئات الإدارية القطاعية وجوبا الإمضاء على لائحة الهيئة الادارية القطاعية اذا تضمنت قرار بحجب الأعداد ( وقع ذلك سنة 2018) مع العلم أن موافقه المركزية هو شرط قانوني كما ذكرنا لاعتبار الإضراب قانونيا ولا يعرض صاحبه للعقوبات المذكورة سابقا.

نقول ذلك في غياب أي فقه قضائي جزائي أو مدني أو إداري في الموضوع.

• مدني ( نستبعد الجانب الجزائي) يبت في شرعية هذا الشكل من الإضراب اذ ظلت المحاكم في القضاء العدلي تؤجل النطق بالحكم في كل القضايا الاستعجالية التي رفعت ضد نقابات التعليم من اجل الزامها بتسليم منظوريها الأعداد للإدارة وهكذا بقيت كل القضايا دون حكم رغم طابعها الاستعجالي مما يعزز الرأي بان القضاء امتنع عن النطق بالحكم لأسباب سياسية . ظللنا بذلك نفتقد مع الأسف إلى أي فقه قضاء مدني يحسم ولو نسبيا الجدل حول شرعية هذا الشكل من النضال النقابي.

• اداري يحدد مدى شرعية الاقتطاع من الأجر في حالة هذا الشكل من الإضراب على شاكلة الإضراب عن العمل العادي هذا أولا ثم ثانيا تحديد مقدار هذا الاقتطاع لأنه ليس امتعانا كليا عن العمل ( المعلمون أصلحوا الفروض ومكنوا الأولياء من الاطلاع على أعداد أبنائهم إذا طلبوا ذلك بحسب ما تشير إليه بياناتهم ) معنى ذلك أن العمل في اغلبه قد أنجز ولم يتبق غير تسليم الأعداد للإدارة وحضور مجالس الأقسام وهو جزء من العمل لا احد يدري كيف يقع تحديده كميا.

وانضاف الى كل هذا الغموض الذي يلف الإضراب الإداري عدم اتخاذ المركزية أي قرار واضح و حازم في ما يخصه إذ ظلت مترددة بين قبوله ورفضه بحسب حاجتها في منظمة بنخرها الطمع و الانتهازية إلى قطاعات التعليم الوازنة في مؤتمرات وطنية محكومة بتوازنات تلعب فيها نقابات التربية و التعليم دورا مهما في تحديد القيادات الصاعدة عقب مؤتمرات موظبة تنجح فيها دائما تقريبا القائمة الرسمية المدعومة من النقابات الاساسية الممثلة للقطاعات المنضبطة و المحسوبة في معظمها على القيادة.

7 )مشكلة الإضراب الإداري

من الواضح أن الإضراب الإداري لا يستجيب مبدئيا إلى أي شرط من الشروط القانونية المستوجبة في أي إضراب ليكون قانونيا ولكن ليست هذه هي مشكلته الوحيدة في نظرنا بل إن المشكلة الأكبر هو ان التزام القاعدة به لا يخضع إلى أي اختبار . وهذا الاختبار يعني قياس مدى قدرة القاعدة على التشبث بموقفها والالتزام به مهما كانت النتائج المترتبة عنه سواء كانت عقوبات إدارية مسلطة عن المضربين تتراوح بين الإعفاء من المسؤولية الإدارية مثلما ما وقع مع إعفاء وزارة التربية هذه السنة حولي 400 مدير من المسؤولية وحتى فسخ العقد للمعلمين كما لوح بذلك وزير التربية محمد على البوغديري مرورا بطبيعة الحال بالجانب المالي أي حجب الأجر جزئيا او كليا عن المضربين.

لقد قلنا مرارا وتكرار أن بعض الأشكال النضالية النقابية مثل الإضراب المفتوح او الإضراب الإداري شكل سيء من النضال النقابي في تونس : الإضراب المفتوح ( لم تعرفه البلاد قبل الثورة ) لان صاحبه يمارسه في كثير من الأحيان في منزله ودون الخوف من الاقتطاع من الأجر ( زال هذا الشكل من النضال حين لجأت حكومات ما بعد الثورة إلى خصم اجر أيام الإضراب سواء كان إضرابا محددا بفترة معينة أو مفتوحا ).

كانت الإضرابات قبل لجوء الحكومة إلى الاقتطاع من الأجر نضالا مزيفا لا ثمن لها فهي بلا كلفة ولا تضحية أما عندما صار الإضراب باهض الثمن ويعني خسارة الآجر كليا او جزئيا لجأت النقابات إلى الإضراب الإداري اذ ظن الجميع انه بمنأى من انتقام الإدارة . غيران حساب الحقل ليس كحساب البيدر.

من حقنا آن نتساءل عن انهيار حماس المعلمين بمجرد الالتجاء من الحرمان من المرتب( لسنا هنا بصدد التقليل من الطابع المعيشي للأجر ) .

هل كان المنفذون للإضراب الإداري يمارسونه عن قناعة وتدبر وإصرار أم أن الانخراط فيه كان عملية سهلة لأنها لا تكلف شيئا إما لان المعلمين كانوا مقتنعين أن الوزارة ستستجيب طوعا او كرها في أخر الأمر لمطالبهم كما كان يحدث دائما دون فهم للواقع الجديد الذي فرضه انقلاب 25 جويلية أو لأنهم استبعدوا فرضية حرمانهم من مرتب شهر كامل وهو ما يعني تجويعهم لا أكثر ولا قل . هكذا عندما صار للإضراب كلفة وأي كلفة فر الجميع من المواجهة حتى بعض القيادات القطاعية نفسها . ( وقع طرد ممثل بنزرت في الهيئة الإدارية لجامعة الأساسي التي اتخذت قرار رفع حجب الأعداد لعدم انضباطه لقرار الهياكل ).

الآن وقد انتهت الأزمة إلى ما انتهت اليه وجب التفكير بعمق في هذا الشكل من النضال الذي يسمى« الإضراب الإداري » بكل أنواعه وصيغه ومدى نجاعته وتقبل المجتمع له بغض النظر عن قانونيته من عدمه ..نحن نأسف كثيرا لامتناع قضائنا عن البت في الموضوع ( وهل ينتظر من قضاء مثل القضاء التونسي ان يتحمل النطق بالحكم في مثل هذه المواضيع الحساسة التي تشغل الرأي العام والتي يخضع فيها لشتى الضغوطات ؟). ولكننا ننتظر ما ستؤول إليه الأحكام التي قدمت او ستقدم من قبل المعلمين إلى المحكمة الإدارية للطعن في شرعية اقتطاع مرتب شهر جويلية للمعلمين الذين رفضوا مد الإدارة بالأعداد ( سواء وقع إعادة المرتبات إلى أصحابها آو لا بعد انتهاء الأزمة).

نحن أيضا في حاجة إلى التفكير بجدية حول مفاهيم التضامن النقابي وحول منزلة الاتحاد االعام التونسي للشغل في الخارطة الاجتماعية والسياسية للبلاد والأدوار التي يمكن أن يضطلع بها بعد أن تورطت المركزية في انقلاب مخز على قانونها الأساسي ثم عقب مساندتها لانقلاب 25 جويلية مما جعل الاتحاد يبدو اضعف بكثير مما يروج هو وأنصاره عنه . هل أصبحت المنظمة أسدا هرما لا يقوى على الحركة …كل ما بقي لديها زئير قد يزعج البعض ولكنه لم يعد يخيف أحدا .في وضع الاستبداد الذي تعيشه البلاد والذي كشف عن كل عيوب المنظمة ومآزقها الداخلية ؟ ذاك موضوع آخر سنتركه لمناسبة قادمة.


هوامش

[1]حجب الأعداد : الأزمة التي كشفت العيوب وفضحت السرائر بقلم عبدالسلام الككلي. اسطرلاب 8 جويلية 2023

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات