على هامش بيان جمعية القضاة : هل للسلطة السياسية مسؤولية في انتشار خطاب هتك الأعراض في تونس ؟

« و َلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ »
الحجرات (12)

استوقفني بشكل خاص في المدة الأخيرة البيان الصادر عن جمعية القضاة التونسيين بتاريخ 05 جوان 2023 تحت عنوان « بيان إلى الرأي العام حول هتك عرض القضاء والقضاة من قبل أشخاص علنا وصفحات مشبوهة » نستشف بجلاء ، في هذا البيان المؤلم حول الوضع المزري الذي وصل إليه القضاء في تونس بحسب شهادة الجمعية ، صرخة فزع بل خوف حيال ما يتهدد القضاة وعائلاتهم من حملات الثلب والتشويه والاعتداء على أعراضهم ونشر معطياتهم الشخصية من قبل صفحات مشبوهة ولكن من قبل صحافيين معروفين في قنوات تلفزية خاصة يتابعها كثير من التونسيين ومن قبل محامين دون رادع بالرغم من عشرات الشكاوى ضدهم والتي ظلت بحسب بيان الجمعية « ترواح مكانها ».

تحمل الجمعية في بيانها المسؤولية للنيابة العمومية ومن ورائها السلطة التنفيذية ممثلة في وزيرة العدل عن إفلات هذه الجهات التي سمت البعض منها من المحاسبة كما تحمل السلطة مسؤولية السلامة الجسدية للقضاة المستهدفين وعائلاتهم على إثر تصاعد هذا الخطاب التحريضي ضدهم دون رادع وتطالب الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري ( الهايكا )، في ما هو من اختصاصها، بأن تتحمل مسؤوليتها في التصدي لهذا « الانفلات الإعلامي كما تتجه لنقابة الصحفيين التونسيين في ما يدخل ضمن صلاحياتها وواجبها من أجل مجابهة هذا الوضع المتفاقم في قنوات تلفزية تبيح لنفسها رعاية خطاب الثلب والافتراء وتتجه إلى عموم التونسيات والتونسيين بحديث خطير ملؤه الكذب والتحريض والكراهية » ( انظر بيان الجمعية )

نريد أن نتوقف هنا وبشكل سريع عند مسؤولية السلطة السياسية القائمة عن خطاب الثلب والتشهير و الكراهية الموجه ضد شخصيات عامة معارضة أو غير موالية للنظام القائم و المنتشر اليوم في تونس بشكل غير مسبوق (لم نعرفه حتى مع صحافة المجاري في عهد بن علي) والذي أدى إلى حالة انفلات غير مسبوقة قوامها الثلب والتشهير والاعتداء على شرف الأشخاص والعائلات أزواجا وأبناءا و أصهارا وأقارب قريبين أو بعيدين دون رادع. فهذا متزوج « في الحرام » والثاني لواطي والثالث سكير والرابع مرتش والخامس سارق والسادسة زانية والسابع إرهابي متستر والثامن تاجر مخدرات و التاسع اسلامي مندس و العاشر غواصة تتحرك في الأعماق بهدف نسف الدولة من الداخل وهلم جرا من هذه الأوصاف الذي تغدقها بسخاء صفحات موالية للسلطة وصحافيون ومحامون يدعون الدفاع عن تونس لان النظام القائم أنقذها من » العشرية السوداء » الخ …

قبل الانكباب على الموضوع بشكل أكثر توسعا و تبين الآثار النفسية التي يخلفها هذا التسيب غير المسبوق في غياب اية محاسبة او ملاحقة قضائية . نريد أن نتساءل بعد قراءتنا لبيان جمعية القضاة عن مسؤولية السلطة السياسية كليا أو جزئيا عن هذا الخطاب وعن مشاعر الكراهية . وفق ما يفهم من بيان الجمعية ؟

في المسؤولية السياسية عن خطاب التحريض والكراهية

لا شك أن رئيس الجمهورية قيس سعيد قد اعتمد منذ توليه الحكم سياسة شيطنة خصومه باستخدام خطاب يحمل الدعوة إلى العنف في مواجهة المعارضة والمعارضين في أكثر من مناسبة، فمرة يصفهم بأنهم « مخمورون »، ومرة أخرى يرميهم « في مزبلة التاريخ ،فمكانهم القمامة »، او يصفهم بأنهم « مأجورون وعملاء للخارج »، أو هم « مثل خلايا سرطانية يجب مواجهتها بالكيماوي ». وكثير كثير من هذه النعوت التي من الصعب جمعها في هذه الورقة المحدودة فقد توزعت على خطبه على مدى أكثر من ثلاث سنوات ولا تزال.

كما تعود رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة في 2019 توجيه شتى التهم ضد جهات لم يكن يسميها بادئ الأمر وهي في كثير من الأحيان تهم غامضة كما أن المتهمين غامضون. تعوّد الرئيس أن يشير إليهم بضمير الجمع الغائب »هم » الذي لا يحدد أشخاصا بذواتهم وإنما يشتمل على الجميع، وما على المستمع إلا أن يحدد بنفسه من المقصود بالكلام في عملية تأويل غدت منذ بداية حكم قيس سعيد رياضة ذهنية و لعبة لغوية لدى التونسيين من السياسيين والإعلاميين بل من عامة الناس.

غير أنه مع الوقت بدأ الرئيس يوجه نباله إلى أشخاص محددين فبدأ بنواب المجلس التشريعي صراحة ودون مواربة من أجل إعداد التونسيين لحل البرلمان وهو أمر تشير كل الدلائل انه كان يضمره في نفسه منذ البداية وانه لم يكن له صلة بأحداث ليلة 25 جويلية ( وهذا موضوع آخر يحتاج إلى كلام خاص ) وانتهى باتخاذ قراره بحل المجلس يوم الاربعاء 29 مارس 2022.

كانت الخطوات التي أقدم عليها تباعا ضد المجلس من تجميده إلى حله رسميا مناسبة « فريدة » لملاحظة كل مشاعر الكراهية والحقد الدفينة التي غذاها الرئيس في نفوس التونسيين فأخرجت أثقالها . كنا نقرأ باستغراب في وسائل التواصل الاجتماعي كل مشاعر التشفي من هؤلاء النواب بل نستمع في دهشة إلى ذلك من الأفواه في المحافل العامة . بل الأدهى أن هذه العاصفة من المشاعر الهوجاء لم تهدأ حتى عندما أصيب هؤلاء النواب بقساوة المرض لهم ولعائلاتهم وحتى الموت جراء حرمانهم من حقهم في التغطية الاجتماعية بسبب عجزهم قبل حل المجلس رسميا عن العودة إلى وظائفهم في غير الأعمال الحرة و بسبب استحالة استقالتهم في ظل غياب المجلس إذ تحتاج هذه الاستقالة إلى إجراءات خاصة لا تكون إلا مع ممارسة المجلس لمهامه بشكل عادي ..

تحركت الآلة بعد ذلك ضد الإسلاميين لتنبش في أسوا ما في التونسي من عاهات الحقد و الكراهية والتشفي . من الغريب أن تستمع الى حديث تلفزي يصف حالة نورالدين البحيري القابع في غرفة الإنعاش في المستشفى بأنه ضرب من »المظلومية » التي تمارسها حركة النهضة ولا يستبعد المتحدث ان تعمد حركة النهضة الى تصفية البحيري قائلا »لذلك أعتقد أن حركة النهضة هي الطّرف الوحيد التي تتمنّى (حتّى لا أقول تسعى) موت البحيري من أجل ؛ أوّلا طمس كل الحقائق والقرائن والأدلة، و ثانيا من أجل إستغلال ذلك في لعب دور الضحيّة و ممارسة المظلومية الّتي دأبت عليها هذه الحركة منذ عقود « . [1] في رجع صدى لحديث رئيس الجمهورية نفسه عن الرجل الخاضع للإقامة الجبرية منذ 31 دسيمبر 2022 قبل أن يفرج عنه ليلة 7 مارس 2022 بعد إضراب وحشي عن الطعام ثم يودع في السجن من جديد اثر صدور بطاقة إيداع في السجن بحقه يوم 14 فيفري 2023. في قضية تتعلق بتصريح كان أدلى به البحيري في تحرك لجبهة الخلاص الوطني في المنيهلة يوم 08 انفي 2023.

.وبشكل عام صمتت أغلب المنظمات الحقوقية إزاء الانتهاكات والاعتداءات التي طالت البحيري وعددا من الضحايا والمتضررين من الانتهاكات الحقوقية وفسر رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان هذا الصمت حين سئل عنه بأن »هناك العديد من المقاربات المختلفة ( هكذا حرفيا ) في قراءة ما حصل مع البحيري [2] ».

من الغريب أيضا أن يتحول المناضل النقابي إلى مبرر لعنف الدولة وهمجيتها . كيف يمكن أن تقبل من نقابي تبريرا لاستعمال الأمر عدد 50 لوضع تونسيين في الإقامة الجبرية دون إعلام كتابي ولا حكم قضائي بطريقة هي أقرب للاختفاء القسري ثم الاحتجاز التعسفي والكل يعرف أن الأمر عدد 50 الذي سن من طرف بورقيبة يوم 26 جانفي 1978 جاء لقتل النقابيين ؟ كيف يمكن أن يتحول النقابي إلى عدو لنفسه ولنضالاته ونصيرا لدولة العنف والاستبداد مادامت تمارس عنفها ضد أعدائه الإيديولوجيين .؟ فقد كتب سامي الطاهري الامين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل المكلف بالإعلام على صفحته يوم 3 جانفي 2022 «أن حركة النهضة التي حكمت لعشر سنوات لم تسع إلى تغيير الأمر 50 الجائر واللادستوري بغاية استخدامه ضد خصومها » وقال في تشف ظاهر «إن الحقوق لا تتجزأ » بما يعني انك إذا خالفت القانون ضد خصومك فانك « تستاهل » ما يقع لك. وبأكثر وضوح إذا خالف اعداؤك القانون وظلموك فلا يعنيني الدفاع عنك إذا كنت خالفت القانون من قبل وظلمتهم . هكذا لا يستحق البحيري المساندة في نظر المسؤول النقابي … وهذا هو المعنى العظيم الذي يعطيه الطاهري «للمبادئ التي لا تتجزأ « ! . لم يدر بخلد الطاهري يوما انك اذا آمنت بدولة القانون، فلا تتجزأ الحقوق عندك حتى لو تجزأت عند غيرك وعلى هذا الاساس تطالب بالعدل لخصومك وأعدائك قبل أصدقائك وإلا ما الذي يميزك عن هؤلاء الأعداء الذين تتهمهم بالاستبداد والظلم ؟

وجاء الدور على القضاة …

بعد حل البرلمان وتهميش الأحزاب السياسية توجهت نبال الرئيس إلى القضاة وغير القضاة من أعضاء المجلس الأعلى للقضاء المنتخب فجعل منهم قوته اليومي المغموس في وعاء الكراهية . فشيطنهم وأتهمهم بشتى التهم وأخيرا وقبل أن يحل المجلس الأعلى للقضاء ألغى منح اعضاء المجلس بعد أن أعد التونسي لكل آيات الحسد والشماتة بإشهار ال 2400 د التي يتقاضاها الأعضاء وكأنها مال قارون أو كنز سليمان الذي يسيل اللعاب ويفتح شاهية الحسد و الانتقام . كان قبل ذلك توسع في حلقات جلد للقضاة هو أشبه بجلد مرتكبي الكبائر في الساحات العامة في تصوير بذخ القضاة وغير القضاة من أعضاء المجلس رغم كسلهم فهم لا يجتمعون إلا يوما واحدا في الشهر. ولم ينس بطبيعة الحال حتى وصولات البنزين أيضا .وهنا تخرج كل مشاعر الشماتة والحسد من عامة الناس بل من «مثقفين » ينزلون إلى مستوى العامة فيكررون ما يقوله الرئيس دون معرفة بصلاحيات المجلس ولا بما يقرره الدستور والقانون في صلة بسلطته الترتيبية ولا بما يتقاضاه غيرهم من موظفي الدولة من وزراء وكتاب دولة وولاة وأعضاء هيئات دستورية آو وطنية من منافع وامتيازات وكأن هؤلاء القضاة وغير القضاة من أعضاء المجلس هم ناهبو المال العام والمسؤولون عن فقرنا وتعاستنا ( لا تستغرب أن يحتوي بلاغ الرئاسة المتعلق بالمرسوم الذي ألغى منح أعضاء المجلس على الرقم العجيب 2370 د ….هل كان يراد سحل القضاة في الطريق العام ؟).

أما ليلة 1 جوان 2022 فقد لخصت عهدا بحاله إذ عرفت أقسى القرارات ضد القضاة. عزل الرئيس ليلتها بأمر 57 قاضيا وجه إليهم وفي مجلس وزراء مشهود تهم « التستر على قضايا إرهابية » و «الفساد » و »التحرش الجنسي » و »الموالاة لأحزاب سياسية » و »تعطيل مسار قضايا » ودعا إلى ملاحقتهم قضائيا،

و في رجع صدى لهذا الخطاب كان كثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي قد تداولوا محضرا مسربا لتحقيق مع قاضية من المعزولين اتهمها الرئيس بالزنا دون أن يسميها ، تتعلق باتهامها في جريمة زنا. ( برأتها المحكمة تاليا من هذه التهمة ) وتداولت مواقع مؤيدة للرئيس الاتهامات ( لم تقدم وزارة العدل شيئا يثبت صحة هذا الاتهامات في ردها على الطعون على اوامر الإعفاء التي تقدم بها القضاة المعزولون الى المحكمة الادارية ) بنشر محاضر وترويج أكاذيب وتوجيه اتهامات وإصدار أحكام ، مدللة بها على صحة قرارات الرئيس.

هكذا حركت السلطة كل مشاعر الكراهية ضد هؤلاء القضاة «الفاسدين » وضد خصومها : فهم جراد وسرطان ومخمورون ورواد مطاعم فاخرة وحانات باذخة واسلاميون متسترون ومتآمرون على امن الدولة وأغنياء وسط الحرمان العام وهلم جرا من قاموس لا يتقنه حتى الحطيئة شاعر الهجاء الذي لم يترك أحدا لم يسبّه حتى هجا أباه وآمه بل هجا نفسه في بيته الشهير.

أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ * * * فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ

إن اخطر ما في خطاب السلطة القائمة هو هذا الكره الدفين الذي نبشت في أعماقه لتجعل من التونسي عدوا للتونسي و لتضرب وحدة هذه البلاد التي تحاول منذ الثورة لم شتات نفسها رغم الأزمة الخطيرة التي مرت بها في 2013 عقب اغتيال شكري بلعيد . فكيف نستغرب بعد ذلك انتشار خطاب الكراهية هذا الذي أشارت إليه الجمعية وحملات هتك الأعراض على نطاق واسع؟

رئيس الجمهورية ضد هتك الأعراض ؟

قال رئيس الجمهورية في لقائه الجمعة 2 جوان 2023 بقصر قرطاج، بكمال الفقيه، وزير الداخلية، وكل من مراد سعيدان، المدير العام للأمن الوطني، وحسين الغربي المدير العام آمر الحرس الوطني « إن فرض احترام القانون لا يعني أبدا التضييق من الحريات التي هي مضمونة بالدستور وبعدد من النصوص القانونية، وعلى الجميع أن يعمل من أجل أن تكون حقيقة ملموسة ولكن الاحتكار وافتعال الأزمات وهتك الأعراض ( هكذا! ) والفوضى لا تدخل في باب الحريات بل هي أفعال يجرمها القانون » فكيف نفهم هذا الكلام المتعلق برفض قيس سعيد لهتك الأعراض ولمن يوجهه رئيس الجمهورية ؟ : هل هو موجه لأنصاره وخصومه سواء بسواء ؟ أما هو موجه لخصومه فقط أما أنصاره فهم أحرار في هتك أعراض الناس دون رادع ودون أية محاسبة قانونية رغم أن من هؤلاء الثالبين ( صحفي ومحامية خاصة )من الأشخاص الذين أشارت إليهم الجمعية في بيانها من هم معروفون بأسمائهم وصفاتهم ومحلات إقاماتهم ورغم عشرات القضايا التي قدمت ضدهم من أحزاب ومنظمات وهيئات وشخصيات في «شكاوى ظلت ترواح مكانها » وفق ما جاء في بيان الجمعية ولعل سكوت النيابة العمومية عن كل الشكاوى المقدمة ضد الصفحات والاشخاص الذين ذكرتهم الجمعية يمثل اخطر مسؤولية للسلطة عن هذا الجو من التسيب وخرق القانون دون حسيب ولا قريب ؟

و في كل الأحوال فانه من المعلوم أن مشاعر الحقد تجاه شخص معين أو مجموعة من الأشخاص قد تستمر وتشتد مع الوقت بفعل الأزمات الاقتصادية خاصة ، وقد يؤدي الحقد إلى الرغبة في الانتقام إذ يعبّر البعض عن مشاعرهم من خلال أعمال العنف ، وتلك هي عادة وفي كثير من البلدان و كثير من التجارب الدولية القاسية المقدمات الضرورية للفتنة … فحذار من خطاب الكراهية والشماتة والانتقام فهو أيسر طريق نحو الهاوية التي لم تعد تفصلنا عنها غير خطوة ..أجل غير خطوة.

الهوامش
-1رياض جراد : « النهضة هي الطّرف الوحيد التي تتمنّى موت البحيري » الرقمية 7 جانفي 2022
-2« الانتهاكات الحقوقية في تونس : قضية البحيري مثالا » العربي الجديد 2 جانفي 2022

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات