لحظة تأمل وتموقع سياسية : رسالة إلى صديق في تونس

تقديم :

تعاني تونس اليوم من شحّ في المال، والغذاء، والدواء، والماء ..وأصبحت كما يعرف الجميع موضوع تدخلات سافرة حلف -اطلسية وأروبية وعربية وغيرها بما يعني اننا في لحظة عالمية وداخلية خطيرة جدا. وتسألني - على حقّ- عن موقفي الآن بعد ملاحظتك انني لم اكتب نصوصا طويلة في السياسة منذ مدّة مما ظهر لك -على حق- انه فتور في موقفي من الشأن الوطني.. ولكنّه فتور من نوع خاص ان شئت واليك ما قد يشفي غليلك رغم أن كتابة نص فايسبوكي طويل الآن هو ،مفارقة، على نقيض ما سأذهب اليه في الجزء الأول منه :

بداية ،أنطلق من ملاحظة ذات صبغة اعتبرها رمزية سياسية تكثف 'وجهة نظري التاملية' لاخلص بعد ذلك إلى 'المسالة الموقعية'.

عندما صدر الرائد الرسمي الذي احتوى على قرار حل المجالس البلدية وعلى القانون الانتخابي للمجالس المحلية و الجهوية ولمجلس الولايات والأقاليم ، اكتفت الأغلبية الساحقة بالتعليق على القرار وغاب النقاش حول القانون حتى عند المختصين الدستوريين والقانونيين وعند الاحزاب السياسية . وهذا يؤشر على الاحساس / الوعي بوصول الأمر في تونس إلى مرحلة جديدة ساقارنها هنا ،إجرائيا، بالمسائل العلمية.

-1-

تشبه الصراعات السياسية في بعض جوانبها العلوم التجريبية، وفي ذلك تختلف عن الصراعات الفلسفية والفكرية العامة اذ في السياسة يوجد 'رهان عملي' يشبه مكانة 'اختبار الفرضية' في العلوم التجريبية.

في وقت ما من الصراع السياسي ،ودون ان تعدم ، تنقص قيمة الصراع الفكري بعد أن يكون المتصارعون قد قدموا أهم حججهم الفكرية و السياسية التي تسند اختيارهم السياسي الاساسي ، وكأنهم بذلك انتقلوا ، لو كانوا علماء ، من مرحلة صياغة الفرضيات إلى مرحلة التثبت في صحتها من عدمه .

في هذه المرحلة في السياسة ، 'كما' في العلم ، ينتقل مركز الاهتمام إلى الممارسة ،إلى التجريب ، ويتراجع دور الصراع الفكري الذي ،بالمناسبة، لا يعرف نفس المصير في الصراعات الفلسفية والفكرية العامة حيث يتواصل تقليب الامور من جميع الجهات حتى ادق التفاصيل لان الرهان النظري المجرّد هنا لا بتعلق بنتيجة محددة في وقت محدد يمكن أن يحسمها النشاط العملي، بل بصراع باراديغمات (منظورات) قد تتعايش وتتصارع لعقود او حتى لقرون كاملة .

في تونس اليوم ، وبعد سنتين من النقاش الفكري حول الشعبوية والديمقراطية وصلنا، بعد إعلان الدستور واخيرا بعد تركيز البرلمان الجديد وإصدار قانون مجلس الولايات والأقاليم ، إلى مرحلة صراع ' الاختبار التجريبي ' الذي سيثبت نجاح أو فشل التجربة، والذي لم يعد معه النقاش السياسي العام نافعا كثيرا باستثناء بعض التفاصيل حسب تقدم التجربة نفسها ، بحكم استنفاذ الحجج الفكرية الأساسية، فلا ينفع معه إلا 'موازين القوى التجريبية ' لتحديد النجاح او الفشل السياسي للسلطة أو للمعارضة .

في هذه المرحلة ،يتراجع الاهتمام بالنقاش الفكري السياسي الكبير ،إلا عند وجود عنصر جديد تماما في التجربة مقارنة بالاخطوطة الاولى، ويحتل الصراع العملي مركز الصدارة بحثا عن الغلبة في ميزان القوى السياسي ، في التجربة، ولا يواصل ' الثرثرة الفكرية العامة ' إلا مثقف لا يدرك الانتقال الى المرحلة ' التجريبية' أو ' مناضل ' يعيش على هامشها ، وكلاهما يعيش غالبا خارج الميدان الحقيقي للصراع السياسي وداخل المكاتب والأوراق والمواقع الافتراضية، مع تواصل حرب الاستنزاف الإعلامية المتكررة مثل الاسطوانة المشروخة سعيا للمحافظة على ما قد تشكل من صفوف لا يراد لها ان تفتر أو تضعف وتتراجع في أفق انتظار المعركة العملية الكبرى القادمة حول السلطة .

نحن الآن اذن في قلب ' التجربة' التي ، ان لم ينفجر ' المخبر السياسي' نفسه على رؤوسنا بسبب الأزمة العالمية / الاقليمية/الوطنية ، ستحسمها - او تبدأ في ذلك على الارجح - الانتخابات الرئاسية لسنة 2024.. هذا ان وقعت . و من هنا إلى 2024 و ما سيليها سنكون أمام احتمالين :

- نجاح التجربة النسبي ، مع تعديل الفرضية النظرية الشعبوية الأولى أثناء الاختبار نفسه ، بحيث نصل إلى نتيجة وطنية إصلاحية مقبولة عموما يمكنها أن تعيش فيتواصل الإصلاح بها ، و فيها ايضا، في نفس الوقت.

- فشل التجربة اما بسبب انفجار / تفجير المخبر نفسه وتحوله،ربما، إلى ركام - بما يعني فشل الجميع - ، واما بسبب قصور ذاتي نظري و/او ،خاصة، عملي ، واما بسبب افتكاك انصار فرضية أخرى، ليست وليسوا أفضل بالضرورة ولكنها، وهم، اقوى ، لمفاتيح المخبر التونسي .

نحن الآن وهنا في مفترق طرق إذن ، وهو بالأساس 'مفترق سير ' عملي وليس ملتقى نقاش نظري ولا حتى 'مؤتمر حوار وطني'. ولكن وجهة السير لا تزال غير واضحة و، أكثر من ذلك، غير مضمونة، و ستحسمها موازين القوى وليس الحجج. و،بالمناسبة، في السياسة 'نجاح التجربة' تحدده ، دائما ، القوة و،ليس دائما ، الصحة ، على خلاف العلم. فكم من منتصر في التاريخ جافى 'الحقيقة والحق والجمال' و،مع ذلك، انتصر و حكم !

هذا التأمل العام حول المرحلة التي وصلنا اليها في الصراع والذي قد يفسر لك احجامي منذ مدة عن كتابة نصوص سياسية طويلة يصبح ،حسب رايي، ترفا اذا لم يرتبط باعلان تموقع ما في الصراع الدائر حول 'التجربة' حتى وان كنا لا نتفق كثيرا أو قليلا مع 'الفرضية' الأولى التي تقودها. في السياسة ،عندي، يوجد التكتيك كما توجد في الحياة ' المخاطرة ' ويوجد في اللعب ' الرهان ' عند من يفعل أو يرغب في الفعل ، وقد يكون على خطأ لان ..'الموتى وحدهم لا يخطئون' !

-2-

إنّ تموقعي يأبى الحياد (سواء الحياد الايجابي أو السلبي) كما يأبى المعارضة الراديكالية الان ، يمينية كانت أم يسارية ، لأنه لا يرى اجتماع 'شروط إمكان' وجود ' فرضية ثالثة' او 'طريق ثالثة' قابلة للنجاح -بمعناه التاريخي الايجابي- في الواقع المنظور ويجد نفسه مضطرا ، قلبيا-عقليا ، إلى الانخراط في أحد قطبي رحى الصراع من موقع فردي مستقل وخاصّ. اما رافعات هذا التموقع فهي اختصارا ما يلي :

- العالم يعيش على وقع 'فرضية ' عامة يراد اثباتها وتحويلها إلى نظرية مهيمنة عالميا : نظرية الليبرالية الجديدة العالمية مع ما تعنيه من ' مينارشية' سياسية ( أقل ما يمكن من الدولة ) و 'حرية' اقتصادية عالمية ( تتحكم في اقتصاديات المجتمعات والدول عبر شركات ما فوق قومية).

- ولكن الاقليم/ الوطن يعيشان على وقع 'فرضية ' خاصة بهما يراد فرضها محليا لاعتبارات جيو- ستراتيجية خاصة ..منها حتى ما هي ثقافية : فرضية الهدم و التفكيك وإعادة البناء .

- وتونس، وهي من الحلقات الأضعف في الاقليم، تعيش احدى أسوأ أزماتها في التاريخ الحديث و تحاول الآن تجنب ذلك من موقع 'وطني إصلاحي' يحافظ على المجتمع و على الدولة بإفشال ' تجربة ' عشر سنوات تفكيك ..باسم الديمقراطية ،نعم، ولكن الفاسدة و التابعة .

- و المحاولة التونسية الحالية لا تخلو من مساوئ ومخاطر شعبوية - ولكن وسطية حسب رأيي - على الديمقراطية ..التي (الأخيرة) يمكن و يجب تجديدها في تونس كي تؤلف بين الديمقراطية والوطنية والاجتماعية ما أمكن وتتجنب خاصة الانقلابات الاستبدادية (على الطريقة المصرية) والانفجارات الانسحاقية .

- وبالتوازي مع حملة 'المشروع / الفرضية' ، احدس انه من الافضل للبلد مصاحبة التجربة الجديدة نقديا سواء بالحياد الايجابي أو بالمساندة النقدية ،التي اختارها البعض، او بالمعارضة الإيجابية ،التي أصبحت أميل اليها منذ قرب انتهاء 'المرحلة الاستثنائية' .. كي لا تعوضها سلطة استبدادية - هي إلى اليوم ذات بعض الميول والممارسات التسلطية، ولكنها ليست لا استبدادية ولا دكتاتورية ولا فاشية كما يقول كثيرون - ولكن بالتمايز عن ثنائي 'المعارضة السلبية' ، التي تراهن على ظاهر ديمقراطي يخفي ارتهانا للفساد الداخلي ولقوى إقليمية ودولية، وعن 'المعارضة الطفولية' التي تعجز عن إصلاح تنظيماتها المجهرية في الوقت الذي تقدم نفسها بديلا ثوريا للشعب والامة وحتى للإنسانية .

- بشكل نظري عام ، وبعيدا عن الفلسفة الوضعية، اتموقع عن حدس يشبه القناعة الوقتية- التي تشبه النظريات الإجرائية الناتجة عن فرضيات وقتية في العلم - ضمن طيف من يساند حركة 25 جويلية دون انتماء لطرف بعينه. واتمنى أكثر العثور على خارطة طريق وسط بين ثالوث الجناح السياسي في السلطة و اتحاد الشغل واليسار والوسط الوطنييْن الاجتماعييْن الديمقراطييْن مع تحديد اتجاه السهم العملي نحو الإصلاح الوطني دون تراجع إلى ما قبل 25 جويلية أو ما قبل 14 جانفي ، ولكن دون قفز بهلواني وهروب إلى الأمام في اتجاهات شعبوية قصووية يزعم أصحابها إعادة اختراع العجلة الديمقراطية.

- وهذا التموقع الحدسي، القلبي- العقلي، لا يخلو من مخاطرة لأنه رهان سياسي على الاقتراب من بعض المنشود دون اليقين في بلوغه . وهو ' تموقع عقابي ' ، ولكن ليس 'على الهوية' كما يريد البعض ، لمن جرّب وفشل ، و' تموقع مفيد ' ضمن طيف يجرّب ويعلن الرغبة في الاصلاح ، ولكن دون انتماء إلى تنظيم بعينه ودون إعطاء صك على بياض لأي شخص كان او تنظيم كان أو مشروع كان .

-اضافة الى ما سبق، يهمني أن أضيف ان المرحلة العالمية /الإقليمية/الوطنية الحالية تحوي ميلين متناقضين : الميل النيوليبيرالي الغربي من ناحية. و،من ناحية ثانية، طيف كامل اخر يمثل الميل الوطني / القومي /المعاد التشكل ،رسميا، (في مستوى السلط الحاكمة نفسها) في محاور وتجمعات اقليمية ودولية عموما و ،شعبيا، تنتج عن الانتفاضات / الثورات / الانتقالات الديمقراطية إمكانيات اختراق وطنية متنوعة ( محافظة، اصلاحية، تقدمية، وثورية) لا ينتبه إليها لا أصحاب التصورات البنيوية المتحجرة ولا أصحاب التصورات التامرية المستنفرة.

وان حدسي ،القلبي-العقلي ولكن المسنود بوقائع ..جزئية إلى اليوم ، يقول لي ان ما حصل في تونس منذ 2019 هو محاولة اختراق وطني إصلاحي- يحمل راية شعبوية وسطية إلى اليوم ،نعم - وان أكبر خطاين سياسيين يرتكبان في تونس اليوم تجاه هذا الاختراق هما:

أ- تقزيمه ( بتخوينه وطنيا و/أو ديمقراطيا و/أو اجتماعيا ..هكذا بشكل عام) أ و

-ب- عملقته ( بتصويره كثورة استثنائية و/او بالاكتفاء بإسناده المطلق أو النسبي ولكن ..مع تخوين كل منتقديه ومعارضيه) .

ولهذا السبب أنا لست مع 'المعارضة السلبية ' ولا مع 'المساندة السلطوية' بل في موقع آخر هو اليوم أقرب الى 'المعارضة الايجابية' منه الى 'المساندة النقدية' نفسها بسبب ما يلي :

-ان الميل العام 'النظري' للسلطة رئاسوي ذي نزعة تسلّطية ( وأكرّر : هي ليست استبدادية ولا دكتاتورية ولا فاشية الان .وهذا يطول شرحه ) بسبب 'البديل القاعدي 'المقلوب على رأسه' .

- وإن الميل العام 'العملي' لها هو الارتجالية بسبب خواء تلك 'القاعدية' التي تجعل من 'المشروع' 'لا مشروعا ' فكريا-سياسيا واضحا تقريبا.

- وان رافعة هذا المشروع السلطوي هي اليوم بالأساس القوة الصلبة للدولة (الجيش والأمن) رغم التعاطف الشعبي النسبي ولكن الذي لا يترجم لا انتخابيا ولا حركيا- شارعيا .

إن الوضعية التي توجد فيها البلاد هي وضعية معقدة لا تنفع معها التحاليل السطحية والأحادية وان بدت ثورية ، سلطوية كانت أم معارضة يمينية أو يسارية ، ولا بد من مقاربتها بطريقة مركّبة داخليا وخارجيا. وان اللحظة السياسية الوطنية الاصلاحية الحالية تستلزم مقاربة 'اصلاحية ثورية ' (حسب عبارة ج-ب سكوت في وصف منهج جان جوريس السياسي ) بحيث يجب على رباعي 'المساندة المطلقة' و'المساندة النقدية ' و 'الحياد الايجابي' و 'المعارضة الإيجابية ' الدفع إلى الأمام الوطني والاجتماعي والديمقراطي قدر المستطاع ،من مواقع سياسية مختلفة ومن خلفيات فكرية مختلفة..دون تطاحن. ولكن، وهذا ما يفسر لك ميلي الى 'المعارضة الايجابية'، تتحمل السلطة المسؤولية الأولى عن تفكك هذا الرباعي،باسم شعار 'الشعب يريد' ، بسبب تلك التسلطية والارتجالية الشعبويتين و ذلك التعويل على الأجهزة الرسمية دون بحث حقيقي عن أحزمة سياسية ومدنية تلعب دور الوسائط مع الأحزمة الانتخابية والشعبية وتكون سدّا منيعا في الداخل و الخارج.

باختصار اذن،

-أنا لست من جماعة السلطة لأنني لا أتبنى مشروع 'البناء القاعدي' . ولست بالتالي من جماعة 'المساندة المطلقة' رغم حدسي أن الكثير من جماعتها يحبون البلاد على طريقتهم فتجدني لا أتهمهم لا في وطنيتهم ولا في اجتماعيتهم ولا في ديمقراطيتهم وأكتفي بنقد حدود ذلك نظريا وعمليا.

-أنا لست من جماعة 'المعارضة السلبية' التي تعتبر ما حصل انقلابا على الديمقراطية وتطالب بالرجوع الى ما قبل 2021 . ولكنني لا أعمم بشأنهم لا كأشخاص ولا كتنظيمات اذ هم طيف سياسي واسع منهم من أوصلتهم احداثياتهم الفكرية الى ما وصلوا اليه دون أن يكونوا معادين للوطنية و الاجتماعية والديمقراطية.

-أنا لم أعد متحمّسا الى موقف جماعة 'المساندة النقدية' لأن 'المرحلة الانتقالية' انتهت تقريبا ويجب البناء على هذا موقفيّا رغم عدم استقرار الوضع نهائيا ، ولأنّ هؤلاء اما يكتفون بنقد الحكومة دون نقد الرئيس أو يصمتون حتى عن نقد ما يفقع العين من اخطاء سياسية وديبلوماسية وهم ،بشكل سياسي أساسي،وهذه عقدة المنشار عندي، لا يطالبون بتعديل الدستور في اتجاه القطع مع التسلطية الرئاسوية فيه من ناحية ، ولا يطلبون بشكل صريح بتغيير طريقة ادارة العلاقات السياسية مع الأحزاب و المنظمات والنخب الوطنية خوفا من انفراط عقدهم مع السلطة التي لا تهتم أصلا بمن يساندها لأنها تعتبر نفسها الوحيدة المعبرة عن ارادة الشعب،و يكتفون،بوداعة مبالغ فيها، بالمطالبة باصلاحات اقتصادية اجتماعية..لا تأتي.

-و لكن،بسبب وضع العالم و الاقليم و البلد ، وبسبب عدم الاستقرار 'النهائي' حتى للوضع السياسي الداخلي المذكور أعلاه (مازالت انتخابات مجلس الجهات والأقاليم لم تقع -وهو غرفة تشريعية ثانية- ومازالت هياكل كبرى لم تنعقد كالمحكمة الدستورية ) بحيث ان سياسة 'قلب الطاولة' قد تعني خلق أزمة أخرى قد تكون أكثر عمقا من الحالية ،وعلى عكس الكثير من الأصدقاء الذين يقولون (نقدا معارضا شديدا لرجعية السلطة ولا وطنيتها /لا اجتماعيتها/لا ديمقراطيتها) ) في العلن خلاف ما يتمنونه في السرّ( تمنيا من السلطة تحقيق رغباتهم الثورية) ،وبسبب رؤيتي المركّبة -فكريا - و'الاصلاحية الثورية' - سياسيا- ، وبسبب حدسي القلبي-العقلي للمخاطر الرهيبة التي تهدد البلد ، فإنني أزن كل كلمة أكتبها أو موقف أتخذه خاصة وأنني مستقلّ تنظيميّا و أعيش خارج البلد بشكل يشل من قدرتي على المعرفة وعلى الحركة كثيرا.

بسبب كلّ هذا ،وغيره، ومن باب الصّدق الشخصي مع النفس أوّلا فأنني أعتمد كثيرا على القلب في الرياح السيئة وأميل الى اتخاذ مواقف 'قلبية-عقلية' لا تدّعي الصحة ولا تخاف من الخطأ ولا تبحث عن منفعة شخصية أو تنظيمية ولا عن وجاهة ثورية سياسية أو ثورية مثقفاتية بل تأمل في الاسهام في حماية البلد بالقلب /العقل بعيدا عن عنتريات انصارالسلطة والمعارضة الموتورين جميعا عملا بمبدأ امكان 'الاقتصاد في الثورة' الديمقراطية بشرط تزامنه مع 'الاقتصاد في الثورة المضادة ' العام، وتنزيله،في الخاص، باتخاذ المواقف حالة بحالة (وليس حزمة سلطوية أو معارضة واحدة) بشرط العمل في نفس الوقت على الحماية من الانهيار من ناحية و على محاولة إبقاء اتجاه السير نحو التقدّم من ناحية ثانية . ومن 'الطبيعي' أن يبدو هذا الموقف انتهازيا و 'غير مبدئي' في نظر الكثيرين ، ولكنني أصرّ عليه فكريا وسياسيا وشخصيا الآن وهنا.. ولكل حادث حديث.

بمثابة خاتمة :

صديقي ،

عندي أصدقاء وصديقات (مثلك) في أغلب العائلات السياسية التونسية الحالية وفي الحركة النقابية وفي المجتمع المدني ذي الصبغة الجمعياتية لا أشك مطلقا في وطنيتهم واجتماعيتهم وديمقراطيتهم الشخصية، كل على طريقته ، منهم من هم في السلطة أو قريبا منها ، ومنهم من هم في المعارضات السياسية المختلفة . واملي، الذي يضعف باستمرار مع الأسف ، ليس تحقيق وفاقهم السياسي العام والتام ، بل تحصيل اتفاقهم الادنى على ثالوث :

- عدم الضرب 'خلف الظهر' الوطني

- عدم الضرب 'في البطن' الاجتماعي

- عدم الضرب 'تحت الحزام ' الديمقراطي

هذا الاتفاق كان ، بالقلب -العقل الذي لا يكفي في صنع التاريخ ، يمكن أن يحصل بين طيف كبير منهم وينجح الانتقال الديمقراطي . ولكن حدسي الان، وهنا أعود الى 'التأمّل الأوّل أعلاه، انه لن يحصل إلا بالقوة السياسية داخل ميزان قوى صراعاتنا السياسية .. لنقل 'الديمقراطوية' ..ولكن السلمية . وان سبب هذا الوضع الذي وصلنا اليه ،اضافة الى شدّة التدخلات الدولية التي تعرقل التسويات الوطنية الاصلاحية ، يكمن مع الأسف في ضعف نخبتنا الفكرية والسياسية والاعلامية من ناحية ، وفي قلة تجربتنا السياسية من ناحية ثانية، بحيث نجد أنفسنا مثل الأطفال اليتامى المجبرين على لمس النار للتأكد من انها تحرق لنستفيق.. قبل 'خراب البصرة' .. ربما !

وفي كلمة ختامية أقول لك اذن : أنا أراهن على القلب -العقل التونسي وحده لا شريك له حكما بيننا هو و الأيّام في اقليم وعالم مجنونين وزمن أكثر جنونا طالما نحن في مرحلة بناء ديمقراطي يمكن تدبّره اصلاحيّا . وهذا ،كما ترى،'رهان ' يدخل ضمن 'العقل العملي' السياسي وليس لا فرضية علمية تبحث عن صحة/خطأ ولا رسالة دينية تبحث عن حلال/حرام .

وإن قناعتي السياسية الأساسية اليوم في تونس هي انه ، في السلطة كما في المعارضة على حدّ السواء ، نحن بحاجة الآن تحديدا الى اصلاحيين ناجعين وناجحين ينجزون أهدافا محدّدة قد تبدو بمقياس النظريات الثورية الكبرى مجرد اصلاحات وطنية واجتماعية وديمقراطية بسيطة، ولكنها،بسبب خطر المحيط والزمن وعمق الأزمة المهددة بالانسحاق ، ستعتبر من قبل أجيال المستقبل انجازات ثورية تاريخية لجيلنا يمكن الاعتزاز بها .

هكذا أرى الأمور واتموقع الآن حسب احداثياتي من بعيد ..و'اهل مكة ادرى بشعابها ' ! وان كنت ترى عكس ذلك فقد يكون معك جزء من حقيقة ومن حق. ولكن ، وأنت تتمسك ببوصلتك السياسية لا تنس بلادك المهددة بالانسحاق والغالبية من شعبك المهددة بالاملاق و احذر كيفية إدارة الصراع وتذكر دائما القاعدة القائلة : ''انّ ما يبدو اليوم مجرّد اختلاف في الرأي قد يصبح غدا مسألة حياة أو موت'' .

سلاما وسلامة للجميع هناك.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات