عن فكرة جميلة إلى حد الخرافة في الصحافة،

"عاد ماهو هاكه العام" في بداية 2002، عدت من فرنسا مظفرا مثل آلاف الطلبة والباحثين بشهادة في أول دورة تكوين فرنسية للحاق بالصحافة الأنقلوسكسونية في علم صحافة الانترنيت، Journalisme en ligne وقتها كانت تصلح في تونس لمسح بلور النوافذ، إنما عدت بفكرة خرافية من تربص تطبيقي في مؤسستي لوموند ولبيراسيون وإطلاع على القانون الأساسي المنظم للعلاقة بين الفلوس ومهنة الصحافة، فكرة كافرة وخطيرة في العالم العربي اسمها "فصل الإدارة عن التحرير" في المؤسسات الإعلامية لكي يكون المحتوى خاضعا فقط للقانون والقواعد الصناعية للمهنة القابلة للمحاسبة بالقانون والميثاق الصناعي والأخلاقي للصحافة، بمثل خطر فصل سلطة مالك مصحة عن العمل الطبي،

عاد، بعد عودتي بأعوام، كنا فقط ثلاثة أشخاص نطالب بفصل الإدارة عن التحرير في الجريدة أحدهم الزميل منجي الخضراوي الباحث في شؤون الإعلام، قال لنا "عمي الراجل" الأكثر واقعية ووحشية وسلطة بعد أن منحه حزب النهضة شرعية جديدة، وهو رباية القسم الأدنى من التجمع في تونس (bas de casses): "هذه بالدبابات، هذه مثل ربيع براغ*، سوف نسحقكم"، قال لي بعدها في أحد معاركنا الطريفة بعد الثورة: "تهدد فيّ بالدولة؟ هي ثمة دولة أصلا حتى تهددني بها؟"، بعدها أصبح من أكثر المقربين في حركة النهضة، الحقيقة أنه كان ثمة حلم بدولة عادلة، لكنهم دمروها بأمثاله قبل قدوم الكرانكة من خبراء الثيران السياسية،

هو وغيره سحقوا مهنة الصحافة، خلقوا بعدهم جيلا من أصحاب المؤسسات الإعلامية الذين يتوهمون أنفسهم رؤساء تحرير وصناع قرار تماما كما يريد صاحب المصحة أن يجري العمليات الجراحية بنفسه، أصبحت صناعة المحتوى بأيدي، سامحوني: أصحابه من أقحاب التيك توك والأنستاغرام وأنصار الإغراء وتلفزة البوبالة التي اخترعتها أمريكا في أزمتها المالية والأخلاقية في الثمانينات وتخلصت منها سريعا وبقينا نحن نرسكلها ونكررها ونمصمصها،

أصبح أهم شخص في المؤسسة الإعلامية هم الكرانكة الذين يحصل الواحد منهم نقدا على أجر أربعة الصحفيين، المكلفون بمهام والفاشلون في مهنهم الأصلية، ممن يشتمون ويروجون الأخبار الزائفة مجانا ويمدحون بمقابل، بدل صناع المحتوى الحقيقيين أي الصحفيين في الأجناس الصحفية المتفق عليها كونيا من الريبورتاج والحوار والاستقصاء والقصة الخبرية وغيرها، الضامنون الوحيدون لمتابعة وسيلة إعلام مفتوحة للجمهور،

ماذا لو تم إقرار الفصل بين الإدارة والتحرير منذ منتصف العشرية الأولى؟ باهي بعد الثورة المجيدة؟ لا؟ الله غالب على أمره،

صاحب المال يريد أن يربح، وأنا صحفي صناعي، أعرف كيف يجعله يربح بطريقة شرعية؟ أنا أعرف أسرار المهنة والنجاح، أنا بحثت عن أدبيات جنس صحفي منقرض كان يدرسه أندري بوايي مؤسس معهد الصحافة في تونس اسمه chasse aux nouvelles صيد القصص الأخبارية واشتغلت عليه وطبقته،

أعرف كيف أنتج أعمالا صناعية في الأجناس الصحفية التي يتفق عالم المهنة كله عليها من اليابان إلى كندا مرورا ببنغلاديش أو الهند أو لبنان أو الدول الإفريقية أو الأوروبية وصولا إلى الأمريكيتين: من صياغة البرقية، في علم journalisme d’agence العزيز على أستاذنا الدكتور المهدي الجندوبي إلى الحوار إلى الريبورتاج إلى الاستقصاء الصحفي مرورا بالقصة الخبرية story وصولا إلى الأعمال التوثيقية التي تباع الآن بوزنها ذهبا بشرط أن تكون جيدة؟

حسنا إن عبارة جيدة كلمة قبيحة عند السادة الكرانكة الذين يكتسبون لحم أكتافهم من مديح من سماهم إعلاميين وفتح لهم أسرار الفضاء العام الذي يفترض أن يخضع للقوانين السائدة صناعيا وقانونيا وليس إلى نزوات من شغلهم ودفع لهم أضعاف أجور الصحفيين، ماذا لو طبقنا اليوم الفصل بين الإدارة والتحرير، وواجهنا دبابات أصحاب المؤسسات؟ ماذا لو أصبح العمل الصحفي مثل العمل الطبي، خاضعا فقط لمسؤولية الأطباء؟ هذا يحتاج إلى كثير من دبابات السوفيات في ربيع براغ وإلى دماء مهنية، وهي تستحق، لأجل مستقبل هذا الشعب، لأجل الحقيقة، لأجل أن تصبح المؤسسات الإعلامية رابحة تجاريا، وهذا ليس سرا، بل عملا صناعيا،

ربيع براغ: انتهى بـ 108قتلى وأكثر من 500 جرحى في مواجهات بين العسكر والمدنيين بعد مطالب بالديموقراطية في جمهورية تشيكوسلوفاكيا الخاضعة للمخيم السوفياتي، قامت قوات سوفيتية وبولندية ومجرية وبلغارية باجتياح مدينة براغ ليلة 21-20 من آب/ أغسطس عام 1968، للقضاء بوحشية على ما رأوا فيه تطورا سياسيا خطيرا لمنطقة نفوذ موسكو. ولم تغادر القوات السوفيتية البلاد بصفة نهائية إلا في عام 1991.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات