ملاحظات حول ندوة تحت عنوان "أزمة الانقلاب ومقتضيات الحل الوطني":

المثير للانتباه هو كثافة الحضور وتنوعه: مثقفون، أكاديميون وسياسيون من مرجعيات مختلفة: علمانيون اسلاميون. يساريون لبراليون وعروبيون… منهم معارضون طيلة العشرية المتنازع على تقييمها ومنهم من ساهموا في تدبيرها. وكذلك من كانوا في مواقع الصراع حد التنافي طيلة العشرية (برلمانيون وحزبيون ووزراء سابقون)، فضلا عن عدد كبير من قادة جبهة الخلاص الوطني. وأغلب الرموز المؤسسة لحراك مواطنون ضد الانقلاب.

المثير للانتباه أيضا الذي كشفه حجم الاستجابة لدعوة حضور الندوة هو مدى التعطش للاستماع إلى صوت المثقفين والأكاديميين في تشخيص ما كان وما بجب أن يكون، وكان حضورهم المكثف ردا رادعا على بعض النشطاء الذين يهرفون بما لا يعرفون، ممن يغمزون ويلمزون تبخيسا للدور المركزي للمعرفة في رسم معالم طريق الحل وتنفيذه بالعمل. فالمثقفون الحقيقيون ليسوا وعاظ سلاطين ولا مرتزقة يراودون الحكام على أنفسهم، بل هم مواطنون مقاومون مشتبكون يضحون ويقفون دوما حيث دفع الثمن وليسوا مجرد نشطاء كل همهم الأضواء والتموقعات حيث قبض الثمن.

ما الذي جمع كل هؤلاء ؟!

اجماعهم كون صنيع قيس سعيد يوم 25 جويلية 2021 هو انقلاب الدبابة على السياسة، انقلاب المراسيم على الدستور، انقلاب التعليمات على القانون…

اجماعهم على تحميل جميع من استفادوا من الديمقراطية مسؤولية تهيئة الظروف على الانقلاب عليها، كل بمقدار، أكانوا ساسة، أم نقابيين، أم اعلاميين، أم نشطاء مجتمع مدني… كان النقاش شفافا وعميقا وصريحا لا خطوط حمراء فيه…

اجماعهم كون الديمقراطية ليست وصفة أو رُقية سحرية، تقول للشيء كن فيكون، وإنما هي أقل أساليب تدبير العمومي سوءا.

اجماعهم كون الديمقراطية التي فرضتها دماء الشهداء عنوة على حكام مستبدين مازالت ممكنة رغم غيبة شروطها التاريخية التي لن تتكرر ثانية.

اجماعهم كون غيبة شروط تاريخية لن تتكرر؛ ليس مبررا لفتوى الارجاء الديمقراطي التي يتكئ عليها المستبدون ويبرره لهم الوظيفيون المتمعشون.

اجماعهم كون الديمقراطية ممكنة متى توفر ديمقراطيون يحرسونها حتى تستقر في النصوص والنفوس.

اجماعهم كون الديمقراطية هي معركة وطنية تدور رحاها في مناخ اقليمي معاديا لها ومناخ دولي منافق يراها خطرا على مصالحه، مما يجعل المتمسكين بحمايتها هم الوطنيون، وكون المحتكمين للدبابة والمناشدين لها هم الوظيفيون الذين خذلوا ويخذلون حق شعوبهم في التحرر من زريبة الرعايا الخائفين إلى رحاب المواطنين أسياد قرارهم ومقدراتهم.

اجماعهم كون الحوار الوطني بين الفرقاء.

و التسويات التاريخية العادلة هما قدر التونسيين بعد عقد من التنازع والتنافي الذي لا يستفيد منه إلا الاستبداد المكين وقوى النهب العولمي المتربصة.

اجماعهم على واجب الخروج من نفق الانقلاب الذي ضاعف مشاكل تونس ولم يكن حلا لها بل زج بها في نفق التجويع والترويع والتطبيع الذي لم تشهده تونس في عز الصراع السياسي بين نخبها على مدار عشرية مضت.

اجماعهم ألا حل إلا من داخل دستور 2014 الذي يعد الوثيقة الدستورية الوحيدة التي تمثل العقد الاجتماعي الذي أجمع عليه التونسيون. واجماعهم أن تنقيحه نحو نظام سياسي آخر غير ممكن إلا من داخل ما ينص عليه الدستور نفسه وليس عبر تنقيح نخبوي خارج قبة برلمان منتخب يُحتكم فيه إلى الشعب عبر انتخابات حرة مراقبة.

كشف حضور البارحة المتنوع المرجعيات الأيديولوجية أن للديمقراطية أنصار من نفس المرجعيات التي يستند إليها مساندو الانقلاب، وليس كما يهرف الانقلابيون كونها مطلب من تم الانقلاب علبهم.

مما يحتم على كل هؤلاء الفرقاء (الذين جمّعهم الدفاع عن الديمقراطية في مواجهة الدبابة) أن يبادروا إلى تدبيج ميثاق سياسي أخلاقي:

- يثبّت الديمقراطية بما هي جنوح إلى العيش المشترك المحتكم إلى دستور /عقد اجتماعي يلتقون حوله ويلتزمون به ويحتكمون إليه عند الاختلاف،

ويجرّم كل مارق يحتكم إلى السلاح ساعة الاختلاف أو ينقلب على أعقابه ساعة يعرض نفسه على الناخبين ولا يحظى بثقتهم.

- اجماعهم كون الديمقراطية لا يُكتب لها الاستقرار أو توسيع دائرة حاملها الاجتماعي في ظل منوال تنموي مركزي بيروقراطي زبائني لا يعيش إلا في ظل مناخات الاستبداد والغموض، فالديمقراطية هي الواجهة السياسية لمنوال تنموي لا مركزي متخفف من البيروقراطية ومتحرر من الزبونية وخاضع بالكامل للرقمنة والشفافية.

منوال تنموي عادل ينهي التهميش الاجتماعي والمجالي الذي يرزح تحته التونسيون منذ قرون وضاعفته سياسات الدولة المابعد استعمارية التي أعادت إنتاجه وعجزت عشرية الثورة عليه عن تثويره أو حتى التفكير الجاد في تثويره.

خلاصات:

لئن مثلت العشرية المنقضية؛ عشرية الثورة على الاستبداد فقد مثلت في الآن نفسه عشرية الانقلاب عليها. وقد مثّل حدث الانقلاب الفج على الديمقراطية الحدث الأبرز الذي أقام الفرز الحقيقي، اذ لم يعد الفرز "ثوار وأزلام" بل أصبح ديمقراطيون وفاشيون.

الفاشيون بتجمّعييهم وقومجييهم ويسارجييهم وعلمنجييهم واسلاموييهم، والديمقراطيون بيسارييهم وعروبيبهم واسلاميبهم وعلمانيبهم ولبراليبهم…

مقاومة الانقلاب محطة مهمة لكسر الاصطفاف الهووي (بما هو تزييف أيديولوجي وقح لتأبيد الاستبداد) وفتح أفق جديد يثبّت الديمقراطية سقفا تحت رحاه يدور الصراع ولا يكسره.

مواطنون ضد الانقلاب، حراك مقاوم ولد في مرحلة أولى للاضطلاع بمهمات محددة نجح في انجازها: تسفيه الأساطير المؤسسة للانقلاب (التفويض الشعبي) وقيادة المقاومة ساعة ارتبكت الأحزاب بين مناشد وخائف. وانتهت مهماتها الأولى بميلاد جبهة الخلاص الوطني من رحمها وتسلم أرصدتها النضالية.

إن كان لها من ميلاد جديد فبمهمات جديدة على رأسها مهمة تثبيت مرجعية اغلاق قوس الانقلاب الاجرامي بعدما التحق بصفوف مقاومة الانقلاب أغلب من ساندوه ونظروا له ووفروا له الغطاء السياسي والنقابي والمدني والاعلامي لكنهم بتحايلون مرة أخرى لترتيب يتخلص من المنقلب الواجهة ويحافظ على الانقلاب مضمونا.

وتثبيت العروة الوثقى بين الاجتماعي والديمقراطي والسيادي، وتثبيت كون الديمقراطية هي عنوان الوحدة الوطنية؛ وكون الاستبداد احتلال محلي يحتكر القرار والمقدرات في أيدي قلة كمبرادورية سمسارة مهما تلفعت بالشعارات الوطنجية المزيفة.

دستور 2014 مرجعنا الوطني في: إغلاق قوس الانقلاب واستئناف ديمقراطية تقرير المصير…

نتقدم…. ونتعثر… لكن لا ننقلب على اعقابنا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات