انثروبولوجيا الانقلاب : في نخبة الفقر و الهَوَس بالكنوز

ما الذي جعل الانقلاب ممكنا بعد عشر سنوات من التجربة الديمقراطية؟ بإمكان المرء ان يقدم عدة إجابات لهذا السؤال: تحوّل مجلس النواب الي حلبة عنف وهو ما دفع بقيس سعيد الي التدخّل لإنقاذ الدولة، او تحوّل المسار الديمقراطي الي مجرد ملهاة انتخابية دون الذهاب الي الجوانب الاجتماعية،او عدم وصول الثورة الي ردم الهوة بين الشعب والدولة وبين الهامش والمركز والإبقاء على نفس منوال التنمية وهو ما أدى الي ظهور الخطاب الشعبوي لقيس سعيد. كل هذا صحيح ونستطيع ان نُقارب الظواهر الإنسانية والاحداث التاريخية من عدة جوانب.

نريد فيما يلي ان نُقارب نازلة الانقلاب من زاوية انثروبولوجية ونطرح السؤال التالي: ما الذي في الثقافة التونسية سمح بوجود الانقلاب وجعل -في البداية- قسما كبيرا من الطبقة السياسية تُباركه؟

للبحث عن "فهم" انثروبولوجي لهذه الأسئلة سنعود الي الوراء للنظر في اهم الفترات الحديثة التي طبعت بقوة الذهنية التونسية واثّرت فيها بقوة، كما سنُحدثُ مقارنة بين بحث التونسي عن الثروة والوظيفة وبحث السياسي التونسي عن حل "سياسي" ليتموقع في السلطة. قبل ذلك علينا ان نُدقق مفهوم "الثقافة التونسية''. بقيت ملاحظة: محاولة الكشف عن الجذور الانثروبولوجية للانقلاب لا تُعفي ابدا المُنقلب ومن خطط معه ومن سانده من المسؤولية السياسية والقانونية، ما نريده فقط هو اعتبار العقلية الانقلابية مرضا يصيب المجتمعات المتخلفة والتي لم تعرف الحداثة، ومحاولة تشخيص هذا المرض والاشارة الي طريق معالجته.

نقصد ب"الثقافة التونسية" جملة القواسم المشتركة التي تُشكل الشخصية القاعدية التونسية، وهي محصّلة تراكمية من الاحداث والتجارب الجماعية أصبحت تتمظهر في المجتمع على شكل قواعد لتوجيه السلوك. ان الشخصية القاعدية هي ما يجعل المرء يلاحظ طُغيان نمط من السلوك العقلاني على مجتمع ما ونمط من السلوك الالتفافي يميّز الافراد في مجتمع اخر. علينا ان نلاحظ ان مفهوم الشخصية القاعدية ليس جوهرانيا وثابتا، فهو ناتج في التاريخ ومُتغير بتغيره، كما انه ليس حتميا وقاهرا لانه يسمح بالاستثناءات الفردية.

ماهي اهم الازمات التي شكلت السلوك القاعدي للتونسي في الأزمنة الحديثة وطبعت الذاكرة و اللاوعي الجمعي؟

أ- الأوبئة والمجاعات والخلاص الفردي

يُحدد الهادي التيمومي في "الغائب في تأويلات العمران البشري الخلدوني" اخطر الازمات التي واجهها المجتمع التونسي ودفعته الي حافة الخوف من الفناء، حيث بدات من 1783 سلسلة من الأوبئة كادت ان تقضي على ساكنة تونس، ثم عاودت الظهور سنة 1800 و 1805، ثم ظهرت الكوليرا سنة 1856 ، ثم مجاعة كبيرة سنة 1867. وفي سنة 1818 ظهر وباء التيفوس القملي الذي استمر حتى سنة 1935 وهي السنة التي فتك فيها بالعباد. لقد شلّت هذه الأوبئة العملية الإنتاجية تماما وفُقِد الغذاء بشكل حاد، إضافة الي تزامن الأوبئة مع سنوات جفاف استمرت من 1936 حتى سنة 1847 وهو العام الذي زحف فيه الجراد على البلاد ليذهب بما بقي من أشجار خضراء. انها سنوات المجاعة التي اسماها التونسيون "سنين بوبرّاك" والتي اكلوا فيها الجراد لأول مرة في تاريخهم. كيف انطبع هذا في الذاكرة واللاوعي الجمعيين وخلق نمطا فرديا ولا معياريا للسلوك؟

خلّد التونسيون هذه الازمات التي واجهوا فيها الموت في امثلة شعبية ستُصبح قواعدا للسلوك وتُخبر عن حجم الفاجعة والرعب المُترسبة في النفوس، "أُفّادي قبل اولادي" ( بطني قبل اولادي). لا شك ان الأوبئة والمجاعات والحروب هي حالات قصوى تهدد الحياة ويصبح الاستمرار الفردي هو الهاجس الأول والأخير، وهذه وضعية لها ما بعدها على صعيد الذهنية وقواعد السلوك. يتبع المرحوم منصف وناس هذه الأمثلة ويحللها في "الشخصية التونسية" مُستنتجا انها تُبينُ عن سلوك فردي ولا معياري (انوميا): التونسي لا يبالي بالقواعد العامة الأخلاقية والدينية والقانونية اذا تعارضت مع المصلحة الخاصة.

لقد أدت هذه الازمات التي ان تتخلى الشخصية القاعدية عن المعايير وتُفضّل النفع مهما كانت الطريقة الالتفافية والانتهازية، وكحُجّة على انغراس هذا السلوك في الشخصية القاعدية علينا ان نلاحظ، الان، ان التونسي يُنددُ بالفساد ويدعو لاحترام القانون ويطالب بتطبيقه، ولكن اذا قام بمخالفة مرورية فانه يفضل ان يدفع رشوة على ان يتحمل مسؤولية فعله. "سلّكها تسلك" و"تونس وتنسى ناسك، مكتوب عالانهاج دبّر راسك".تلك قواعد سلوك الشخصية القاعدية. ان تجاوز القانون هو اتفاق ضمني في الشخصية القاعدية، بل هو "شطارة" و"ذكاء اجتماعي" اذا كان يؤدي الي "لقمة العيش".

لن نكون قاسين اذا قلنا بان التونسي مُستعد ان يتذلل لرئيسه في العمل ويتخلى عن احترامه لذاته في سبيل ان يترقى مهنيا او يحصل على منفعة ماديا او رمزية، وفي هذا السياق علينا ان نفهم ما قامت به شخصيات اكاديمية وثقافية وإعلامية من تقرّب لقيس سعيد ومن تضحية بقيمتها الاعتبارية. علينا ان نقارن بين التونسي الذي يؤسس احترام "الرجل" على ما في جيبه فقط (ما يعيب الراجل كان جيبه) ومفهوم الاحترام الذي ظهر في الحداثة الغربية المؤسس على احترام القانون ( انظر كانط "نقد العقل العملي" وكذلك لوي ديمون "في الفردانية، رؤية انثروبولوجية للايديولوجيا المعاصرة). التونسي لا يرى في المؤسسات والقانون تمظهرا لإرادته الخاصة، لذلك لم ير في الانقلاب أي تعدِّ على حرمته الذاتية او أي عنف رمزي يمس من قيمته.

ب- فشل التعاضد: الشُّلَليّة والمحسوبية والبحث عن الكنوز

نريد الانطلاق في هذه الفقرة من مفهوم "السلوك العقلاني" كما صاغه ماكس فيبر في "الاخلاق البروتستانية وروح الراسمالية" وطبقه على سلوك المقاول الكلفاني في عملية تحصيله للثروة ومراكمتها، ومقارنة ذلك بالسلوك الالتفافي للتونسي سواء في تحصيل الثروة او في الوصول الي السلطة او المشاركة فيها.ترتكز العقلانية عند "فيبر" على فكرة "نزع القداسة عن العالم" أي تجريد العالم من القوى الغيبية ورفض التعويل على الاخر سواء كان الله او الكنيسة في عملية الخلاص. لقد وقع تعويض الواسطة بالعمل الفردي المُستقل والجهد والمراكمة في مسار تحقيق الخلاص الدنيوي.

مقارنة بهذا المسار العقلاني الذي يميز الفرد الحديث علينا ان ننظر في استراتيجيات التونسي في عملية تحقيقه للثروة او في مسار تحصيله على وظيفة والتّرقّي فيها.

يُرجعُ منصف وناس ظهور السلوكيات اللأعقلانية للتونسي في مسار تحقيق المنفعة الي فشل تجربة التعاضد: لقد قذفت هذه التجربة القسرية والمُرتجلة، وفي ظرف وجيز، بين 1946 و1969 حوالي 700 الف تونسي الي العاصمة والي سوسة وصفاقس، وشكلوا احياء عشوائية فقيرة على تخوم هذه المدن. اخطر نتائج هذه الازمة هي تفكك البنى والمعايير، وظهور عقلية البحث عن الربح السريع اعتمادا على التحيّل والمحسوبية والواسطة والزبونية.

عوض المسارات العقلانية والمؤسساتية التي تقوم على الحق والكفاءة، سيعوّل التونسي الواقع تحت اسنان الحاجة على "الاكتاف'': "ضربة بكتف خير من مائة عام قراية"، "تعرفش شكون في الوزارة؟" "عندك شكون في الصبيطار؟". سوف يقع أيضا إحياء هياكل تقليدية داخل المدن في شكل شِلل جهوية وعروشية وقبلية، واستعمالها من اجل الحماية او من اجل الوصول الي مواقع داخل الإدارة.الشللية هي استراتيجيا متخلفة لتحصيل المنافع، وتقوم على منطق الانغلاق التام تجاه "الغريب"، وعلى منطق الولاء والطاعة والمُناصرة العمياء مقابل الحماية وتقاسم المنافع بعيدا على منطق الكفاءة والاستحقاق القانوني. علينا ان نستحضر هذه العقلية التي تميز الشخصية القاعدية عندما نريد فهم سلوك الكثير من الشلل السياسية تجاه الانقلاب: عوض السلوك العقلاني الصّبور والمثابر الذي يقوم على إعداد البرامج وإقناع الناس واتباع طريق المراكمة والعمل للوصول الي السلطة، فإنها -الشلل- خيرت منطق الولاء والمساندة العمياء للانقلاب ريثما تتخذه "واسطة" للوصول للسلطة بسرعة.

نفس العقلية التي لا تؤمن بفكرة التقدم و تقوم على احتقار المجهود والالتفاف على المسارات العقلانية التي تقوم على التخطيط والعمل وتحسين الأداء، وتعتقد انه بالإمكان القفز من الفقر المدقع الي الثروة/السلطة، نجدها في هوس التونسي بالكنوز.

علينا ان نلاحظ امرين: ان الهوس بالكنوز لا نجده الا في المناطق الفقيرة وبين الشرائح الغير متعلمة والتي لا تملك مؤهلات دراسية تجعلها تتبع المسالك المؤسساتية والحديثة في بناء الثروة، وثانيا لا معيارية هذا السلوك، بمعنى انه يضرب عرض الحائط بالمعايير الدينية والأخلاقية في عملية البحث عن الكنز: في 2008 وقع نبش اكثر من ثماني توابيت داخل المساجد بجربة، في تجاوز تام للمعايير التي تحرم نبش القبور وتجعل للمساجد حرمة.

ان هذا السلوك نتيجة لتحقير العلم والمدرسة كسلم للارتقاء الاجتماعي، وكذلك تحقير قداسة العمل والجهد كطريق للوصول الي الثروة. لقد عامل البعض الانقلاب بوصفه "كنزا من السلطة" يُعفيهم من مسار طويل وشاق ويُجبرهم على المرور من مسارات مؤسساتية. لان هؤلاء يعرفون احجامهم، وقد جربوها وقدموا انفسهم للشعب التونسي، فانهم، مثلهم مثل فاقدي المؤهلات التعليمية، لا يملكون الا البحث عن الكنوز، في سلوك لامعياري أيضا، ضاربين عرض الحائط بالشعارات الحداثية والتقديمة والديمقراطية التي عاشوا عليها ردحا من الدهر.

لا تختلف هذه "النخبة" في شيئ مع الشخصية القاعدية، بل هي الشخصية القاعدية: ان عدم الايمان بان نباء الثروة مسار عقلاني وطويل، وعدم الايمان بان الإصلاح والنهوض مسار يحتاج عملا شاقا وشروط هي تقوية المؤسسات والتربية على العمل والمواطنة، وعدم الايمان بان الديمقراطية تقوم على المراكمة و التحسين المستمر، عدم الايمان بهذا هو سلوك متخلف ورجعي لا يؤمن بفكرة التقدم. ان التصفيق للانقلاب عوض تقوية المؤسسات والمراهنة على المستقبل هو سلوك نبّاش القبور وحفّار المساجد. اننا لا نجد الانقلابات الا في المجتمعات الأكثر كسلا وفسادا وتخلفا وفقرا، والنخب التي تساند الانقلاب هي الأكثر تعبيرا عن هذه الشعوب.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات