اعتراض الرئيس على الحركة القضائية... في ألغاز الغرف المظلمة ؟

استقبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد، أمس الأربعاء 21 سبتمبر 2022 بقصر قرطاج، ليلى جفال، وزيرة العدل وهو ثاني لقاء معها عقب البرود الذي عرفته العلاقة بين الرئيس والوزيرة على اثر المجلس الوزاري الشهير في 1 جوان 2022 والذي اعلن فيه الرئيس عن قراراته المتعلقة بإعفاء 57 قاضيا حكمت المحكمة الادارية تاليا بتوقيف تنفيذ قرارات إعفاهم .وتم، خلال هذا الاجتماع بحسب الافادة الذي نشرتها رئاسة الجمهورية ، النظر في سير المرفق العمومي للعدالة وخاصة الحركة المتعلقة بالقضاة، علما وأن رئيس الجمهورية أمضى الأمر المتعلّق بتعيين خريجي المعهد الأعلى للقضاء.

وأكد رئيس الجمهورية، مجددا، ."على الدور المركزي للقضاء في تطبيق القانون وتطهير البلاد، مبرزا أن المرسوم المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء المؤقت يمنحه حقّ الاعتراض وإعادة الحركة إلى المجلس الأعلى للقضاء بناء على التقارير التي تُبرّر هذا الاعتراض، وهي تقارير تقوم على أدلة واضحة لا على قرائن مفترضة ." بحسب ما ورد في صفحة رئاسة الجمهورية.

كما أثنى رئيس الدولة " على دور القضاة الشرفاء الذين واجهوا ويواجهون عديد الضغوطات ولكنهم ثابتون صامدون ولا سلطان عليهم في قضائهم غير القانون والشعور المفعم بالمسؤولية."

سنترك جانبا الخطاب المعتاد حول التطهير وحول تقسيم القضاة إلى شرفاء وآخرين يجب أن يكونوا محل تطهير ..فهو الاستقطاب الذي يحكم كل خطب الرئيس والذي يقسم البلاد جميعها إلى وطنيين صادقين وخونة ، إلى مدافعين عن مصالح الشعب و من نكلوا به .

فتلك من طبائع الخطاب الشعبوي يلقي إلى الجموع فاكهة الشعبويين جاهزة للاستهلاك وخاصّة من تلك الفئات غير المؤهّلة بحكم فقر زادها المعرفي لفهم طبيعته و هوسه بالثنائية فهو غير منشغل بفهم الواقع والبحث عن حلول للمشاكل المتراكمة والمعقدة .

اذ دأب قيس سعيد منذ وصوله إلى السلطة على ممارسة هذا النوع من الخطاب والذي يجد أفضل تعبير له من خلال التخويف من المختلفين عنه الذين ما انفك يشير إليهم بضمير الجمع الغائب » هم » دون أن يحيل الضمير على شخص او أشخاص محددين بل إلى كتلة غامضة مبهمة يمكن أن تحشر فيها من تشاء إذ المقصود ليس تحديد المستهدف من الخطاب بقدر ما يهدف إلى خلق حالة من الخوف من كل من يختلفون مع الرئيس المنقذ والملهم والملخص .لن نتوسع هنا في هذا التحليل فهو يحتاج إلى حديث خاص حول خطاب الرئيس حول القضاء ضمن خطابه الشعبوي عامة… بل سنرى علاقة خطاب رئيس الجمهورية أمس بمحضر وزير العدل بالمرسوم المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء الموقت وبالآجال التي يضبطها لإتمام الحركة ونشرها.

ما ليس له بداية ليس له نهاية

لدينا هنا مجموعة من الآجال يحددها المرسوم في علاقة المجلس و رئيس الجمهورية بالحركة القضائية :

ينص الفصل 18 من المرسوم على ان يتولى كل مجلس من المجالس الثلاثة العدلي والاداري والمالي إعداد الحركة القضائية العدلية والإدارية والمالية ويحيلها إثر ذلك إلى رئيس المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي يتولى بدوره إحالتها إلى رئيس الجمهورية في أجل لا يتجاوز عشرة (10) أيام.وينص الفصل 19 – على ان يتولى رئيس الجمهورية إمضاء الحركة القضائية لكل صنف في أجل أقصاه واحد وعشرون (21) يوما.

ولكن لرئيس الجمهورية خلال الأجل المذكور بالفقرة الأولى من هذا الفصل، الاعتراض على تسمية، أو تعيين، أو ترقية، أو نقلة كل قاض بناء على تقرير معلل من رئيس الحكومة أو وزير العدل. وفي هذه الحالة على كل مجلس إعادة النظر في موضوع الاعتراض باستبدال التسمية، أو التعيين، أو الترقية، أو النقلة في أجل عشرة (10) أيام من تاريخ توصله بالاعتراضات.

يبدو من ظاهر المرسوم وجود مجموعة من الآجال المحددة التي تضبط عمل المجلس في صلة بالحركة وتصرف رئيس الجمهورية حيالها بعد وصولها اليه .


• امام رئيس المجلس 10 أيام لإرسال الحركة إلى رئيس الجمهورية بعد وصولها إليه من قبل المجالس الثلاثة العدلي والاداري والمالي.

• أمام رئيس الجمهورية 21 يوما للاعتراض على الحركة.

• أمام كل مجلس من المجالس الثلاثة 10 أيام لإعادة النظر في الحركة بناء على الاعتراض واستبدال التسمية، أو التعيين، أو الترقية، أو النقلة المعترض عليها في أجل عشرة ايام.

• تنشر كل حركة قضائية بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية في أجل سبعة (7) أيام بمقتضى أمر رئاسي.

يطرح هذا المرسوم بالشكل الذي صيغ به مجموعة من الأسئلة المحيرة في ظل السرية التامة التي تلف عمل المجلس وتصرف رئيس الجمهورية.

كيف يمكن تحديد سريان كل أجل من الآجال المذكورة إذا كنا لا نعرف بدايته؟ بمعنى أننا لا نستطيع مراقبة تقيد رئيس المجلس بأجل العشرة أيام لإرسال الحركة الى رئيس الجمهورية اذا كنا لا نعلم متى وصلت إليه من كل مجلس من المجالس الثلاثة العدلي والاداري والمالي.. كما أننا لا نستطيع ان نتثبت من التزام الرئيس بأجل ال 21 يوما اذا كنا لا نعرف متى وصلت الحركة إليه من رئيس المجلس كما لا نستطيع التثبت من التزام المجلس بأجل العشرة ايام لتعديل الحركة وفق ملاحظات الرئيس اذا كنا لا نعلم متى رجعت اليه الحركة من الرئيس. ونحن نجهل أيضا متى يبدأ أجل سبعة أيام ليأذن رئيس الجمهورية بنشر الحركة بمقتضى أمر رئاسي.

هكذا يحدث كل شيء في نطاق السرية وغياب تام للشفافية مثلما هو الأمر في الحركة القضائية لهذه السنة فلا أحد يعلم عنها شيئا ولا أحد قادر على الحديث عن آجال حقيقية. فالأجل الذي لا تعرف بدايته لا تعرف نهايته. وما ليس له بداية ليس له نهاية . كما لا احد يعرف الصيغة الأولى التي أرسلها المجلس إلى الرئيس ولا مدى وجاهة الاعتراضات التي قدمتها الرئاسة والتي قال عنها قيس سعيد أنها تستند إلى حجج.. نحن بإزاء غير المقيد الذي يتطابق تماما مع واقع الحال الذي نعيشه : فوضى و غموض واستفراد بالسلطة وتسليم من الجميع تقريبا بواقع سريالي لم تعرفه البلاد طوال تاريخها حتى في اشد فترات الاستبداد زمن بورقيبة وبن علي .

هذا من ناحية أما من ناحية أخرى و بحسب ما يفهم من المرسوم فان الحركة تصدر أولا عن المجلس ثم يأذن رئيس الجمهورية بنشرها بمقتضى أمر وما يفهم هنا ايضا أن رئيس الجمهورية لا يمكن له أن يحدث بنفسه التغييرات التي يطلبها على الحركة، بل هو يقترح هذه التغييرات ويظل المجلس الأعلى المؤقت هو صاحب القرار الأخير . غير انه من الغريب أن المرسوم يصمت تماما عن فرضية عدم التزام المجلس بمقترحات الرئيس ولا عما يمكن ان يترتب عن خرق المجلس لأجل العشرة أيام لإحداث هذه التغييرات، هذا اذا علمنا طبعا بداية سريان هذا الأجل وهو أمر مستحيل في واقع الظلمة التي تعيشها البلاد …نحن في حلقة مفرغة ومتاهة : لنعرف النهاية يجب ان نعرف البداية ولنعرف البداية يجب ان نعرف نهاية الطور الذي يسبقها …حزر …فزر.

يا للخسران …

سألني منذ أيام احد الصحافيين عن تاريخ إرسال المجلس الأعلى للقضاء الحركة القضائية إلى رئيس الجمهورية لعله كان يريد أن يتثبت من التزام الرئيس بأجل ال 21 يوما الواردة بالمرسوم فأجبته." قد أكون على علم بتاريخ الارسال وقد لا أكون . ولكن ماذا يفيدك الأجل الذي سأذكره لك على فرض معرفتي به اذا كنت تريد محاججة السلطة به ؟. أن أكون أنا وأنت على علم بهذا التاريخ من مصادرنا الخاصة او كنا نجهله فسيان . فما لا يعلم بشكل رسمي ومؤسساتي فهو ضرب من الإشاعة أو قل التسريب ينتشر هنا وهناك لا احد يعرف صحته من خطأه .تلك حالنا نعيش في زمن الإشاعة والتخمين.. في زمن ضاعت فيه كل الضمانات ولم يبق غير الاعتباط والفوضى ..فهل تحتاج مني إلى أكثر من هذا وأنا اشعر بنفس العجز الذي يتولاك.. و يا للخسران المبين ؟."

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات