الحركة القضائية " في غرفة العمليات " والقضاة جالسون على الجمر

ينص القانون الاساسي لسنة 1967 المتعلق بنظام القضاة و بالمجلس الاعلى للقضاء و بالقانون الاساسي للقضاة في الفصل 14 على ان المجلس الأعلى للقضاء ينظر في نقلة القضاة الجالسين قبل بداية العطلة القضائيّة من كلّ سنة ولوزير العدل خلال السّنة القضائيّة أن يأذن بنقلة قاض لمصلحة العمل ويعرض الأمر على المجلس الأعلى في أوّل اجتماع له.

كما أنّ القانون الأساسي لسنة 2016 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء ينص في الفصل 47 على ان المجلس الأعلى للقضاء يعلن عن الحركة القضائية مرة واحدة في السنة في أجل أقصاه موفي جويلية من كل سنة ويمكن للمجلس عند الاقتضاء إجراء حركة استثنائية خلال السنة القضائية.

غير ان المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المتعلق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء لا ينص على أي تاريخ لصدور الحركة . اذ يتولى كل مجلس من المجالس الثلاثة العدلية والإدارية والمالية إعداد الحركة القضائية ويحيلها إثر ذلك إلى رئيس المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي يحيلها بدوره إلى رئيس الجمهورية في أجل لا يتجاوز عشرة (10) أيام ويتولى رئيس الجمهورية إمضاء الحركة القضائية لكل صنف في أجل أقصاه واحد وعشرون (21) يوما وله خلال الأجل المذكور الاعتراض على تسمية أو تعيين أو ترقية أو نقلة كل قاض بناء على تقرير معلل من رئيس الحكومة أو وزير العدل.وفي هذه الحالة على كل مجلس إعادة النظر في موضوع الاعتراض باستبدال التسمية أو التعيين أو الترقية أو النقلة في أجل عشرة (10) أيام من تاريخ توصله بالاعتراضات.

ومن الواضح ان هذه الصيغة المعقدة في اعداد الحركة اذ انها قد تعرف مراجعات من قبل رئيس الجمهورية على عمل المجلس تمنع وضع أي اجل لصدورها اذ ان تاريخ الصدور متوقف على كل عمليات الجيئة والذهوب للحركة بين مجلس القضاء ورئاسة الجمهورية التي اصبحت فاعلا اساسيا في حركة القضاة في كل تفاصيل العملية وجزئياتها وهو امر غير مسبوق لم تعرفه البلاد من الناحية القانونية على الأقل طوال تاريخها منذ صدور القانون المتعلق بنظام القضاة و بالمجلس الاعلى للقضاء.

في بعض تاريخية الحركة القضائية

لم يقع عموما الالتزام بمقتضيات الفصل 14 من قانون 67 ولا بمقتضيات الفصل 47 من قانون المجلس الأعلى للقضاء المنتخب المنحل في الالتزام بتاريخ صدور الحركة منذ صدور قانون 1967.

كانت السلطة في عهد بورقيبة أو زمن بن علي تلتزم نسبيا بموعد شبه ثابت في إصدارها اذ لا يتجاوز ذلك الأسبوع الثاني من شهر اوت وهو ما يسمح للقضاة المنقولين بترتيب نقلتهم التي قد تستدعي احيانا تغيير عنوان الاقامة وما يستتبعه ذلك من ترسيم للأطفال في حال وجودهم بمدارسهم الجديدة والى اخر ما تستدعيه النقلة من ترتيبات معروفة . كانت الحركة القضائية تعد بلا شك في قصر قرطاج ويمضي عليها المجلس الاعلى للقضاء المعين في معظمه مع انتخاب بعض اعضائه في عملية صورية ككل الانتخابات التي كانت تجري في عهد بورقيبة او بن علي وكانت الحركة تؤدي وظائف معروفة ومنها :


• الاستجابة قدر الإمكان لاحتياجات المحاكم وطلبات القضاة.

• مجازاة القضاة المنسجمين والتي كانت السلطة تعتمد عليهم في التستر على فسادها أو في محاربة الخصوم السياسيين فتعينهم على رأس المحاكم الابتدائية والاستئنافية مع محكمة التعقيب وفي وكالة الجمهورية والوكالة العامة والادعاء العام كما تسند اليهم الوظائف القضائية السامية وتعينهم ايضا في النيابة وفي بعض الدوائر التي تلتجئ اليها خاصة في المجالس الحكمية مرورا بمكاتب التحقيق.

• معاقبة القضاة غير المنسجمين بنقلتهم إلى محاكم داخل الجمهورية او تأديب القضاة الذين فاح أمر فسادهم تأديبا أبويا خفيفا بنقلتهم إلى محاكم داخل الجمهورية أو بتعيينهم في مركز الدراسات القانونية التابع لوزارة العدل و الذي كان يمثل نوعا من " الفريقو" بالنسبة إلى القضاة القريبين من السلطة والمغضوب عليهم لسبب او لآخر.

حين جاءت الثورة لم يقع الالتزام بالموعد المحدد في قانون 1967 عموما فظلت الحركة تتأخر الى شهر اوت، بل ان مجلس القضاء العدلي اصدر الحركة سنة 2013 عشية افتتاح السنة القضائية ( كان ذلك مرتبطا بصعوبة تركيز مجلس للقضاء منتخب ومستقل تماما عن السلطة ) ولم يتغير الأمر كثيرا مع بداية عمل المجلس الأعلى للقضاء المنتخب والمركز بداية من 2016 غير ان الامر ظل مقبولا عموما وكانت الحركة تصدر في وقت يسمح نسبيا للقاضي بالاستعداد لها .

ماذا وراء هذا التأخير ؟

لم تعرف الحركة في تاريخها ( عدا المثال الذي ذكرناه ) مثل هذا التأخير في الاعلان عنها :

- تجاهل تام لما يشكله ذلك من ضغط نفسي على كافة القضاة واستهانة بالظروف العائلية والاجتماعية لعدد كبير منهم واستخفاف بحسن سير المرفق القضائي وانطلاق السنة القضائية في ظروف جيدة رغم أن الحركة القضائية هي العمل الوحيد الذي يتولى المجلس المؤقت القيام به منذ إحداثه.

- تعتيم كامل على أعمال المجلس المؤقت وغياب كامل لقواعد الشفافية بخصوص الحركة ومدى التقدم فيها وتاريخ الإعلان على نتائجها.

- غياب غير مسبوق لأي سياسة اتصالية بالقضاة من قبل المجلس الذي يشتغل في نطاق السرية التامة فلا احد يفيد القضاة بكل ما يحتاجونه من معلومات حول المسائل الجوهرية التي تتعلق بمساراتهم المهنية في سياق الإعداد للحركة القضائية وإقراراها.

فهل سيعلن عن الحركة القضائية قبل يوم او يومين من السنة القضائية الجديدة وربما بعد انطلاق السنة القضائية في محاولة مكشوفة لوضع القضاة أمام الأمر الواقع حتى تتجنب السلطة تهيؤ القضاة المعزولين خاصة لأي تحرك مع اليوم الاول لبداية العمل في المحاكم مما سيحدث اضطرابا على بداية السنة وهو ما يخشاه النظام في ظل الوضع المضطرب الذي تعيشه البلاد على جميع الاصعدة ؟

سوق التسريبات والدسائس

وفي ظل هذا الوضع الغريب تنشط سوق الإشاعات وحتى الدسائس والمؤامرات. من الملاحظ بداية ان المحكمة الإدارية أصدرت قرارات تتعلق بتوقيف تنفيذ 49 من أوامر العزل الفردية الصادرة في 30 جوان الماضي ضد القضاة .

ومنذ 30 جوان امتنع المجلس المؤقت عن فتح باب الشغورات في المناصب التي كان يشغلها القضاة المعزولون وفهم الأمر من قبل القضاة والرأي العام المتابع بان المجلس يبدي نوعا من المقاومة اتضحت أكثر بعد قرارات المحكمة الإدارية اذ ظل المجلس متشبثا بعدم اعتبار المراكز التي كان يشغلها المعفيون مراكز شاغرة تفتح لتناظر القضاة غير أن بعض المصادر المقربة من التنسيقيات او بعض المحامين الموالين لرئيس الجمهورية ( معلوماتهم ليست دائما دقيقة ) تشير بان المجلس المؤقت تراجع عن ذلك إرضاء للرئيس و اقترح عليه حلا وسطا يتمثل في اعادة إدماج المعفيين ولكن نقلتهم إلى مراكز عمل غير مراكز العمل التي كانوا يشغلونها قبل إعفائهم وبناء على هذا يتحدث البعض عن وجود الحركة الان بين يدي الرئيس و يزعم البعض الأخر ان قيس سعيد رفض الحركة التي أعدها المجلس وأرجعها إليه وذلك بسبب إعادة المعفيين الى عملهم وهو امر يرفضه رئيس الجمهورية .ويبدو ان الحركة كانت على وشك الصدور قبل 6 سبتمبر الجاري ولكن تأجل الامر لسبب غير معلوم على وجه الدقة اذ وقع إعلام الملحقين القضائيين بأنهم سيؤدون اليمين يوم الأربعاء 6 سبتمبر ولكن موعد اليمين تأجل في اخر لحظة لسبب يتعلق على الارجح بالخلافات الطارئة حول تفاصيل الحركة وخاصة في ما يتعلق بالمعفيين اذ يمثل هؤلاء معضلتها الأكبر التي لا احد يعلم اليوم كيف سيقع تجاوزها ..

فما الذي يجري بين الرئيس ومجلس القضاء ؟ اي الأطراف تتدخل في هذه الحركة التي ينتظرها الجميع بسبب ما قد تحمله من قرار يتعلق ب 49 قاضيا قضت المحكمة الادارية بتوقيف تنفيذ قرار عزلهم وهو ما يعني نظريا ضرورة التزام السلطة بالقرار القضائي ؟

هل يعود بنا الزمان كطاحونة الشيء المعتاد الى مجلس قضاء بورقيبة و بن علي حيث تعد الحركة في أروقة السلطة وتؤدي وظيفة الجزاء والعقاب في قضاء مدجن لا وظيفة له غير خدمة أهداف النظام وأغراضه.

وفي انتظار كل ذلك تلتهب سوق التسريبات و وترتفع حمى الإشاعات وتسري المؤامرات في الأروقة الحالكة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات