الطوابع البريدية و محرزية العبيدي

وقع في تونس هذه الأيام إصدار طوابع بريدية حملت إشادة وتذكيرا بمجموعة من النساء، وقد تميزت قائمة الطوابع تلك بانتقائية أيديولوجية تحمل بصمات منظومة فرنسا الحاكمة في تونس، إذ نستخلص منها عداء شديدا للإسلام يقطر من تلك القائمة، حيث وقع النبش في قعر تاريخ تونس فانتقيت المرأة التي مثلت رمز رفض الإسلام من أن يطأ برّ تونس وهي الكاهنة، ثم وقع القفز على قرون الازدهار الإسلامي الذي عمّر تونس وحولها لامبراطورية سادت البحر المتوسط من جنوب إيطاليا شمالا حد أفريقيا جنوبا، ولم يجد معدو القائمة أي من نساء تلك الفترة المتطاولة لقرون يضيفونها لقائمتهم، حتى وصولهم الفترة المعاصرة وقد انتقوا منها من النساء من ذوات الانتماءات الخادمة لمشروع الإلحاق الفكري والعقدي بفرنسا من نعرف.

وقد انبرى الكثير يعارض القائمة لأنها لم تحو محرزي العبيدي تحديدا، وأنا أرى انه وان كان مفهوما ما أتته منظومة فرنسا بتونس ممثلة في بقاياها المتحكمين في مجمل أدوات تشكيل الأذهان من إعلام وثقافة وتعليم من إعداد للقائمة التي تعكس عدائهم للإسلام، فانه يبقى غير مفهوم موقف من طالبوا بإضافة محرزية العبيدي للقائمة.

دلالة الإصرار على محرزية العبيدي

- لو أن القائمة ضمت محرزية العبيدي مثلا لما وجدت عمليات الرفض التي شاهدناها (ينظر لصفحات التواصل الاجتماعي للشخصيات الدائرة في فلك النهضة أو المقربة منها كعبد اللطيف العلوي وما كتبه من كلام عاطفي مؤثر، ولكنه سطحي)، إذن معنى ذلك أن لا إشكال مع باقي القائمة ولا الخلفية التي أعدت بها القائمة، ماذا يعني هذا ؟

- ذلك يعني أن العقل المنتج للمواقف لدى هؤلاء المنتفضين رفضا للقائمة البريدية، يتحرك تحت سقف أقصاه وهدفه أن يقع القبول به ضمن الواقع، نحن إزاء ذهنية مسلوبة تتحرك بمنطق الاستجداء، فهي بهذا المعنى اعجز من أن تنظر في الموجود فتنقده وتحاسبه فضلا أن تطالب بتغييره أو رفضه.

- وتفسير ذلك أنه لا مشكلة لدى هؤلاء في تحكم منظومة فرنسا في المجال المفاهيمي الضابط لواقع تونس، المشتق من الفلسفة الغربية ذات أصالة المادة / الواقع الرافضة للإسلام، والتي تتحكم في أدوات تشكيل الأذهان في تونس من تعليم وإعلام وثقافة، وهي الخلفية العقدية التي أعدت قائمة الطوابع البريدية واستبعدت محرزية العبيدي وغيرها الآلاف من النساء ذوات المجد والإنجاز.

- رغم أن هؤلاء الممتعضين تحمل كتاباتهم صدى لأصل المشكلة حينما يقولون بتحكم الوطد اليساري في تونس، لكنه فهم قاصر، لان الوطد مجرد أداة في جهاز أكبر وهو منظومة فرنسا، المشكل ليس في الوطد في ذاته، المشكل مع فرنسا ابتداء، المشكل في حرب تدور رحاها في تونس منذ عقود ولا يريد المبتئسون من القائمة اعتبارها حربا عقدية أساسا لأنهم لا يريدون القبول بوجود صراع عقدي في تونس ولا بوجود لشيء اسمه منظومة فرنسا بتونس ولا بوجود حرب معها.

هم أصلا في اغلبهم لا يفكرون حتى يقرروا بوجود هذه الحرب مع فرنسا من عدمها، لأنهم في عمومهم قطعان تتبع ما يقوله كبير حكمائهم وحواريوه ثم تتكفل منظومته الدعائية بإعادة ترويج ما يقول، وهو يقول ويصر منذ عقود أن الصراع في تونس مجرد تدافع سياسي في أساسه حتى أضحى هذا الرأي مسلمة وماهو بالمسلمة حقيقة (1)، وكما ترون فإنه حُقّ لفرنسا ومنظومتها أن تفرح بمثل هذه التصورات الخادمة لها، وحُقّ لفرنسا أن تفرح بهذه التنظيمات التي تروج لطرح فكري يبعد الأنظار عنها ويشوش عن فهم طبيعة الصراع معها.

- حينما ننظر في الرافضين للقائمة البريدية وتبرير رفضهم، فإننا إذن إزاء مجال ذهني غارق في أحاسيس النقص والعجز إزاء الواقع ويعتبره صاحب الحق في الوجود والمعنى، أي أنها عقلية تعتبر أن الواقع صحيح من حيث هو موجود، ولكن الأخطر أنها تعتبره صوابا من حيث خلفيته الفكرية والعقدية ومجاله المفاهيمي الذي ينتجه، لذلك هي تسعى للتقرب منه وطلب رضاه والتحرك في سياقاته و التماهي معه.

ويبلغ همّ طلب رضا الواقع و التماهي الملهوف معه، تبني أساليب منظومة فرنسا في الفهم والتحرك والاحتفال، فيتبارى المنكسرون للبرهنة على ولائهم للواقع ومنظومته الفكرية الضابطة له، ويبدؤون ويعيدون في مناسبة وغير مناسبة للتذكير بأنهم وسطيون ديموقراطيون و يكتبون مستجدين أن محرزية العبيدي ممثلة للإسلام الديموقراطي وللحداثة وأنها داعية للتقريب بين الأديان، وهم في كل هذا اللهاث، إنما يزداد صغارهم في نظر أعدائهم منظومة فرنسا، وهم أخيرا لن يجنوا من وراء انحدارهم المتسارع أبدا إلا مزيدا من الذل والتفكك، وهم بعد ذلك لن يجنوا غير السراب ولو تخلوا عن جلودهم وبدلوها.

- لكل ذلك فان المنكسر نفسيا تصغر همته أمام الواقع وتصبح مطالبه صغيرة وإن رآها كبيرة، فيكون همه الأكبر إضافة محرزية العبيدي لقائمة، ويبتئس أنها لم توجد بها، وكان سيعتبر ذلك إنجازا لو أنها أضيفت، وصدق أبو الطيب حينما تحدث عن صغر الطلب لدى صغار الهمم:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم **وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها **وتصغر في عين العظيم العظائم

- ستقول لي ماذا يجب أن تكون المطالب إذن، أقول المهمة (وليس المطلب) الأولى هي وجوب تفكيك منظومة فرنسا بتونس التي تحكمنا منذ عقود، ومعها ستفكك أدواتها من وطد وغير وطد، وهذه مهمة شاقة يلزمها مشروع فكري تتحرك في ظله، وأساسه فهم الواقع أنه مجال لحرب وليس صراع مع منظومة مغالبة لنا عقديا وهي منظومة فرنسا وأنها تؤطرنا وتعركنا من خلال بعد الإلحاق اللامادي (2) الذي لا يكاد يتناوله أحد حين الحديث عن خطر فرنسا، وبعده يأتي كل شي تباعا.

محرزية العبيدي (3) لا تمثل نساء مشروع الهوية (4)

ينطلق المبتئسون من أمر القائمة البريدية، من فرضية غير مبرهن عليها تقول أن محرزية العبيدي ممثلة لمشروع الهوية الذي طالبوا من منظومة فرنسا أن يقبل لديهم ويعترف به في سياق استجدائهم.

الحقيقة أن محرزية العبيدي تعتبر ممثلة للمشروع الإلحاقي بفرنسا اكثر من كونها ممثلة لمشروع الهوية في تونس، و محرزية واقعا طيلة نشاطها في مساحته الفاعلة خدمت التمدد الفرنسي في تونس في أبعادة اللغوية والفكرية والثقافية والعقدية وساهمت في تكريس التسليم بغلبة فرنسا وتفكيك وتهميش إرادات صده.

كان يفترض والحال هذا، أن تكون محرزية محضية لدى منظومة فرنسا بتونس، فيقبلوا بها، لكن تلك المنظومة لم تفعل لأنها تشكيل ذا حقد عميق وأي حقد، تريد تبعية صافية لفرنسا لا يقاسمها فيها شيء من الانتساب للإسلام ولو في شكل غطاء راس، وهي منظومة من شدة شراستها الأيديولوجية أنها تريد عداء للإسلام صافيا لا تشوبه احتمالات تصالح معه في شكل شعائر دورية كالصلاة وما ماثلها لا اثر لها في السلوك والمواقف المؤثرة في الواقع.

- محرزية العبيدي تمثل عينة للامتداد الإسلامي لمنظومة فرنسا في تونس، ففرنسا مثلما لها بقايا ومريدون في التشكيلات التي تقول أنها حداثية وتقدمية، فإن لها أيضا مبشرين من ذوي الانتماء الإسلامي، يحملون جنسيتها وهويتها، مبشرون ومنافحون عن لغتها ومروجون لثقافتها و أيديولوجيتها، وقد وقع إغراق الحركة الإسلامية التونسية التي حولها الغنوشي ومقربوه لإقطاع خاص من بعد أن سقاها الصادقون بدمائهم وآمالهم وعذاباتهم، لرافد لمنظومة فرنسا بتونس، فتسيّد الفرنسيون مستويات القيادة داخلها، من أمثال: محرزية العبيدي، سيدة الونيسي، زياد العذاري، فضلا عن زيتون صاحب الجنسية البريطانية، وغيرهم الكثير الأقل ظهورا.

"منظومة فرنسا الإسلامية" هي التي حكمت ووجهت حركة النهضة ومن خلال ذلك حكمت مسار الثورة وقادته للفشل المحتوم، ولأنها في اصلها تشكيل محكوم بعقد الصغار والنقص نحو فرنسا، فإنه وقع تصعيد محرزية العبيدي لمسؤولية خطيرة وهي رئاسة مشتركة لمجلس النواب، و أصل ذلك عقلية محركة لدى الشق الفرنسي بالحركة الإسلامية يسبح في أفق التقرب من فرنسا والسعي لطلب رضاها، من خلال استدعاء كل ما يثبت التخلص من متعلقات الانتماء الإسلامي وان ابقي على ظاهره مثل التلفظ بالآيات القرآنية بخشوع مصطنع في المناسبات الشعائرية الدورية و لبس غطاء الرأس لدى النساء (لا أقول حجابا لأن الحجاب الشرعي رمز فلسفي يحيل لمشروع رسالي ترفض وجوبا صاحبته التبعية لفرنسا)، فكانت محرزية هي الخيط الناظم لذلك المشروع التابع باعتبارها كانت تقرب بين الأديان كما تزعم، وهو أساسا ادعاء فضفاض لا معنى له إلا تأكيد الولاء للمشروع الغربي، ثم كان من أمر مواقف محرزية ما نعرف ومنها زيارتها لمصنع للخمور، وهي كلها مواقف تفيض بالتزيّد والاصطناع الذي لا غرض منه وله إلا تأكيد الولاء للمشروع الفرنسي بتونس.

الهوامش

(1) ينظر لمجموعة المقالات حول طبيعة الصراع مع فرنسا في تونس ووجوب الفرز العقدي، بموقعي بوابتي والزراع.

(2) ينظر لمجموعة المقالات حول خطر الربط اللامادي مع فرنسا، بموقعي بوابتي والزراع.

(3) بالنسبة للذين سيدندنون علينا بكون محرزية العبدي توفيت وانه لا يجوز تناولها، أقول باختصار ان هناك بعدين لمحرزية، بعد الشخص وبعد محرزية ممثلة المشروع الفكري الإلحاقي بفرنسا ونحن نناقش البعد الثاني.

(4) مشروع الهوية، في الحقيقة هذا تركيب فيه تجوّز وعدم دقة، لكني استعمله كاصطلاح لما يفهم منه انه المشروع المناصر للإسلام عموما واللغة العربية، وإلا فان الهوية مسالة عميقة الابعاد ربما سأتناولها في كتابات لاحقة.

(5) يتناول جماعة ائتلاف الكرامة موضوع فرنسا باعتباره مسألة ذات بعد سياسي واقتصادي فقط، أي اتفاقيات وبروتوكولات استقلال، ويخلو مشروعهم من البعد الأخطر الذي يشدنا لفرنسا وهو بعد الربط والارتباط اللامادي من لغة وثقافة وفكر، وهذا خلل مفاهيمي كبير في مشروعهم السياسي.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات