خالتي عائشة

Photo

كانت –رحمها الله- مولعة بالحياة، حفيّة بكل ما يمكن أن يُدخل عليها وعلى المحيطين بها الأمل والسعادة، كانت أبواب قلبها ونوافذه مشرعة على مصراعيها على الفرح، ولم تكن تحفل بغوائل الدهر وغدر الأيام.. فلقد كانت مُحصنة ضد الحزن والإحباط وتمتلك قدرة عجيبة على مقارعة الخُطوب، وكانت تمتلك حنجرة نادرة، فكانت نجمة أعراس وأفراح القرية، تصدح بالغناء فتزلزل المكان، وتشنف الأسماع وتسحر الألباب، وكانت أغانيها البدوية "الكافيّة" الشهيرة تستهويني حد الفتنة، وحين أضبطها تدندن بإحداها وهي تشتغل بالصوف أو بغير ذلك من الشؤون أتسمر في مكاني وأتشرب أهازيجها حتى الثمالة.. ولم يكن بيتها يخلو أبدا من الضيوف وعابري السبيل والأقارب وأطفال الجيران، فلقد كانت كريمة، لا تضيق بالناس وتحتمل هرجنا ومرجنا وعبثنا نحن الأطفال، بل وتشاركنا ألعابنا الساذجة البريئة فنعصب عينيها ونختبئ في أحد أركان البيت وتظل هي تبحث عنا حتى تخور قواها..

وكنت الأثير عندها، المقرب إلى قلبها وكاتبها الشخصي،كما كانت تردد أمام الجميع، لأنني كنت أكتب رسائلها إلى ابنها البكر الذي هاجر إلى فرنسا ولمّا يكمل العشرين ربيعا، فأربك حياتها وأدمى روحها وملأ كيانها أسى وحسرة.. وآه يوم تصل رسالة منه، وآه يوم تملي علي رسالة إليه..

كانت تأمرني أن أكون أمام مكتب البريد قبل ساعة من وصول الباص الذي يحمل الرسائل إلى قريتنا النائية حتى تضمن ألا يعوقني أي طارئ عن حضور عملية توزيع الرسائل، فإن وصلت الرسالة، فيا لسعادتي، ويا لفرحتي، أنطلق بها لا ألوي على شيء، وعندما أراها من بعيد تنتظرني على أحر من الجمر أمام المنزل ألوّح لها بالكنز الثمين الذي في يدي، فتنطلق باتجاهي غير عابئة بخطواتها المتثاقلة المترنحة نتيجة "الروماتيزم" الذي لازمها منذ شبابها، تأخذ مني الرسالة بيدين مرتبكتين، وتطبع على جبيني قبلة إمتنان سريعة، وتضم الرسالة إلى صدرها، قبل أن تفتحها بأناة وحرص شديدين، فتتشممها، وتمرر أصابعها على الحروف بلطف وانسجام غريب وكأنها تعزف لحن حياتها الأخير..

والذي يحصل بعد ذلك أنها تقودني إلى إحدى الغرف النائية في المنزل الكبير وتطبق الباب وراءها وتطلب أن اقرأ لها الرسالة المرة تلو المرة، متوقفة في كل مرة عند جمل وعبارات بعينها تطلب مني أن اعيد قراءتها ببطء وتركيز وبنطق أكثر وضوحا، وبتنغيم مناسب.. وكثيرا ما كانت تستوقفني عند عبارة مثل "أمي العزيزة"، لتطلب مني أن أقرأ بقية الصفات المرتبطة بلفظة أمي، وكان علي أن أخترعها اختراعا فأضيف من عندي: الحبيبة الغالية وكل ما تسعفني به قريحتي، لأنها كانت تكره الإختصار ولا تقبل ان تكون عند ابنها البكر "أما عزيزة فقط".. ولم تكن تأذن لي بالخروج من تلك الغرفة إلا بعد أن ألتزم لها بالعودة في اليوم الموالي لأقرأ الرسالة المرة تلو المرة..

أما إذا لم أحمل لها الرسالة الموعودة، فتشيح عني بوجهها وتنزوي لبعض الوقت عن الأنظار قبل أن تعود إلينا وآثار دموع ساخنة تملأ عينيها..

أما يوم كتابة الرسالة إليه، فذاك شأن آخر، ومعضلة كبرى ويوم مشهود..

كانت تغريني، بغداء مميز فاخر، وتهيء لي كل الظروف التي تعتقد أنها من الممكن أن تساهم في تفتق قريحتي على أروع وأبلغ ما في اللغة من عبارات يمكن ان تصف تعلق أم بابنها البكر المهاجر وراء البحار..

كانت تلحّ علي، أن أبحث لها عن ديباجة مميزة مؤثرة عميقة، تقنعه بمدى شوقها إليه ومدى حنينها وحبها له وحزنها لفراقه، ولإرضائها كان عليّ، أن أعود لكتب الإنشاء والرسائل والروايات وان أقدح زناد القريحة قدحا عساها تمنّ علي بالألفاظ المناسبة.. ولم يكن يرضيها شيء..

أبدأ الرسالة ب:"عزيزي وإبني الوحيد وحبيب روحي وقرة عيني"، فتزم شفتيها بامتعاض وتعلق ثائرة: "هذه كلمات باردة لا تصف مشاعري نحوه، ابحث عن عبارات أفضل.. فأضطر إلى المبالغة والتوسع في الوصف بغير حدود: "إني أشتاق إليك بعدد ذرات الرمل ومياه البحر وقطرات المطر، إنك أعز علي من نور عيني ومن سمعي ومن الدنيا كلها".. وكانت هذه المبالغات تطربها وترضيها فكانت تستزيد منها وتحثني على الذهاب فيها كل مذهب.. ولم أكن لأتردد في مجاراتها –سامحني الله- فقد كان ذلك يشعرني بأنني أصبحتُ أديبا بشكل ما.. بل وشاعرا أيضا.. وكان يحلني المحل الأرفع في قلبها ووجدانها..

بعد أن استكمل بناء الديباجة، وبعد أن تملي علي كل الأخبار التي تخص العائلة الموسعة، بكل تفاصيلها الدقيقة، وبعد أن أختم الرسالة بتلك العبارة المألوفة: "مع ردّ الجواب على الفور".. تضعها بحرص شديد في صدرها لبعض الوقت: كي لا يُحرم من عطر الأمومة، تهمس لي بحرص، وتأمرني أن أضع الرسالة في صندوق البريد..

وتبدأ في عدّ الأيام، في انتظار وصول الردّ..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات