في الكتاب والسينما وأشياء أخرى

لم أزر معرض الكتاب هذه السنة. فأنا أشعر بأنّه معرض مُختطَف. وأكّد لي بعض ما قرأت أنّه مختطَف، منها مقال قيّم لتلميذي الشاعر القدير عادل المعيزي. واختطافه ليس فقط بسبب جعله رهين إرادة سياسيّة أمنيّة، وهو ما لم نلاحظه خلال " العشريّة السوداء"، إرادة تجلّت في الحضور الأمني البارز وفي ما قيل عن مصادرة بعض الكتب التي شفع لأصحابها أنّهم من أنصار 25 جويلية لتُردَّ في الحين إلى مواقعها، حسب الروايات، وليصبح لهم حضور في التلفزة، بل أيضا لأنّه مختطف من قيم السوق غير المتأنسنة ومن مجموعات تضارب المصالح من اتّحادات وجمعيّات ومن نزعة ذرائعيّة تحوّل الكتاب إلى سلعة لا تختلف عن الحذاء أو غيره من السلع.

ويصبح الكاتب جزءا من المشهد الفرجويّ الاستعراضيّ لا غير. يكفي ما أثاره بعض الكتّاب حول غياب الجمهور عن ندوات المعرض الثقافية حيث يكتفون بالجلوس في الصالونات والتحدّث إلى بعضهم البعض. هناك إضعاف للروح الثقافية للمعرض مقابل تقوية الروح التجارية.

وهو أمر يحتاج تقويما أخلاقيا وفكريّا لهذه التّظاهرات المسمّاة ثقافية، تماما كما هو الأمر لمهرجان قرطاج السينمائي حيث فقد المهرجان بعض قيمه التي تأسّس عليها أو الكثير منها لينخرط في تسويق غرائزيّ للانحطاط. الكتاب الذي يسوّق للغريزة بطريقة فجّة والسّينما المسوّقة للغريزة بطريقة فجّة كلاهما أدوات حرب على سرديّة العقل أي في النّهاية على الدّولة باعتبار العقل هو أساس الدّولة الحديثة. وأعتقد أنّها حرب جادّة على السياسة في معناها العميق بتتفيه الوعي والثقافة والإنسان من خلال الترويج لثقافة الكيتش وما يطلبه الجمهور، مع استثناءات هامّة ومحترمة.

أجواء ثقافية " شعبوية "ولكن لا أحد يهتمّ فالأهمّ هو الحصول على موقع داخل هذا الفضاء. هي معركة الكاتب الصغيرة التي لا تهمّ أحدا غيره. ومنشغلا بها يغيب عن المعارك الكبرى التي كان بإمكان معرض الكتاب كفضاء ثقافي واسع أن يحتضنها كما أشار إلى ذلك الشاعر عادل المعيزي: معارك مواجهة الخراب وبناء تصوّرات للمستقبل. التفكير المشترك في المنعرجات الحادة وفي الإمكانات المتاحة للعيش هنا. إنّ المثقّف أيّ مثقّف مطالب بموقف ممّا يحدث، في لحظة تاريخيّة نعيش فيها غموضا واضطرابا وتدخّلا لقوى شبحيّة لتقرير مصيرنا، ومطالب بالإصداع بما يراه حقيقة فلا يخفيها أو يؤجّلها حتى يقع الحسم. وأشكر الفيلسوف الصغير الشاب عيادي عمري الذي وضع اليوم على صفحته قولة لبرتولد بريخت تناسب ما أفكّر به إذ يقول بريخت:

"إن أسوأ الفنانين الأميين هم الفنانون الأميون سياسيًا، لا يسمعون، لا يتكلّمون، ولا يشاركون في الأحداث السياسية، لا يعلمون أن كُلفة الحياة، وأسعار الحبوب والأسماك والدقيق والإيجار والأحذية والدواء، كلها تعتمد على قرارات سياسية. لا يدركون أن السياسة التي يتفاخرون بأنهم لا يحبونها هي ما ينتج التشوهات التي تكون مواضيع أعمالهم، هي ما ينتج المومس، والطفل المهجور، وأسوأ اللصوص، والسياسيين المتخمين من الشركات المحلية ومتعددة الجنسيات. الفن ليس مرآة قابضة على الواقع، بل مطرقة تساعد في تشكيله."

ولعلّ غياب هذا الموقف هو أحد أسباب عدم الثقة في الكاتب والابتعاد عنه وعدم تصديق ما يقول. فلا معنى لأن نكتب الحريّة ما لم نقاوم من أجل تحقيقها، وما لم يكن هناك وعي سياسيّ حقيقيّ بالقوى المتحكّمة في العالم، ولا معنى للحديث عن الاختلاف ما لم ندافع عن المختلف، ولا معنى لكتابة الجسد مادام الكاتب ينعت المرأة المختلفة عنه انتماء أو فكرة أو كتابة بأبشع النّعوت، ولا معنى آنذاك لأن يتظاهر بالتقدّميّة، ولا معنى للكتابة عن الفقر والفقراء مادام الكاتب الفقير معنى وقيمة يحاول بكلّ انتهازيّته الرثّة والمُذِلّة إلى أن يجد موقعا بين "الكبار"، ولا معنى لأن تكتب مادمت تريد الطرق السهلة، ولا معنى للحديث عن الحبّ والصداقة ما لم نقاوم الإقصاء وعقليّة الجماعة الثقافيّة والعشيرة الثقافية والطائفة الثقافية.

بل لا معنى لأن نكتب الحبّ ونحن نعيش الضغينة. يكفي أن أذكر تجربة مع أديبة كبيرة أجلّها وأحبّها التقينا معا في توقيع كتابينا ودعوتها إلى مهرجان الأديبات العربيّات حين طُلب مني اختيار بعض الأسماء فجازتني بالحذف بسبب موقفي من عبير التي أعتبرها بصوت عال، وسأظلّ، معول تخريب للتجربة الديمقراطيّة ( أظنّ أنّ الإعلاميّ القدير في الإذاعة الوطنية الذي فاجأني بالاتّصال بي منذ سنة ونيف بعد أن قرأ روايتي سوبرنوفا عربية ، دون أن أعلم أو أطلب ، وأعلمني أنّه سيكون هناك لقاء إذاعيّ حولها، سينفض يده مني تماما. أعتقد جادّة أنّ المثقّف هنا يمرّ إلى جانب الأشياء متجاهلا أو مفضّلا التبعيّة المطمئنة إلى مجموعة غالبة ومهيمنة بقوّة النّفوذعلى قلق اللاإنتماء الممضّ والمرهق أو اطمئنان الهامشي الواقف على حافة الأشياء دون غرق في المشهد.

وسنظلّ على حافة المشهد نكتب ما نريد.

الصور: أوجّهها للكتّاب الجدد: لا تحتاج إخفاء موقفك السياسي مما يحدث أو تجنُّبَ الكتّاب أصحاب المواقف حتى يُعترف بك. كن أنت فقط. وكن الموقف.



…

…

الصور من تقديم بعض أعمالي: بكلّ مواقفي السياسية التي أكتبها الصائبة والخاطئة ، نجحتُ إلى حدّ ما ، وحيدة إلا من أصدقاء أوفياء جمعتنا الفكرة ممتنّة لهم كثيرا، في أن أجمع مرّات جمهورا من مختلف الانتماءات لا يأتي بهذه الكثافة إلى الرواية عادة. أشكر كلّ الفضاءات واسعة القلب والفكر التي رحّبت بي وخاصّة رابطة تونس للثقافة والتعدّد التي تعمل من أجل المشترك، والندوات التي استضافتني في مدن داخلية كثيرة، ومجموعة قرّاء بلا حدود المميّزة.



…

…

…

…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات