الربط بفرنسا: الآليات الذهنية لصناعة الضحايا (1)

فعل الإلحاق بفرنسا المندرج في مجال أفعال الربط بها، مسار زمني يستهدف بشرا في مستوى أفهامهم حتى و إن كان يتحرك في الماديات، لأن الربط بفرنسا هو المجهودات التي تعمل على خلق تصورات وانطباعات و دفع الناس للتحرك في مجال مفاهيمي معين يقع ضبطه يخدم هدف منتج فعل الإلحاق بفرنسا أي منظومة تشكيل الأذهان بشقيها الرسمي والفواعل الإلحاقية.

ولأن الإلحاق في أساسه فعل إرغامي مسلط على الضحايا، فإن أدوات تشكيل الأذهان لا يعنيها إثارة الإدراك العقلي الواعي (1) لدى الضحايا حينما تلقي عليهم مفاهيمها، وهي بالتوازي يهمها أن تكثف استثارة الآليات الذهنية التي تغالب فعل العقل الواعي الموجودة ابتداء لدى كل فرد.

الناس في أغلبها تتحرك بالحد الأدنى من أعمال العقل، لذلك فأغلب أفعالها مبنية على فرضيات متداولة لا تقوم هي لا بإنتاجها ولا بالتثبت فيها، وهي عموما فرضيات وتصورات صممتها وروجتها أدوات تشكيل الأذهان من تعليم وإعلام وثقافة.

الناس تركن للحد الأدنى العقلي في تحركاتها، لأنها تخضع لمجموعة من الآليات الذهنية التي تجعلهم نهبا لأي فعل توجيه من الغير في مستوى فهمهم للواقع.

إذن ففعل التوجيه الذهني والإلحاق بفرنسا عملية فيها طرفان، الطرف الفاعل هو السلطة الرسمية والفواعل الإلحاقية، والطرف الثاني المفعول به وهو التونسي العادي الذي لديه القابلية ليكون ضحية من خلال تفضيله وضع الحد الأدنى العقلي.

ما أسميه الحد الأدنى العقلي هو الوضع الذي تعمل خلاله العديد من الآليات الذهنية لدى الفرد، التي تسمح بمرور المغالطات والفرضيات الفاسدة، وهي:

فرضية صوابية الواقع، قاعدة التفسير النتائجي عوض التفسير السببي، قاعدة التفسير الخطي للواقع عوض التفسير الموضوعي، فرضية أن الموجود ليس له فرضيات أولية، قاعدة كفاءة المنتوج الدلالي للمحتوى من كلام وكتابة وغيره.

وهو ما سيقع تناوله في حلقات.

فرضية صوابية الواقع

أ – الحالة الأولى :

لسبب ما يفترض الناس أن كل موجود صواب، أي أن الواقع مادام واقعا فهو صحيح، وهم يتوسعون في هذه الفرضية فيقولون أن الواقع مادام وجد فذلك لأنه صواب (2) و إلا فلماذا غلب وانتصر وعمّ.

تستدعى هذه الفرضية مثلا حينما يستولي أحدهم على السلطة بالتغلب كالحاكم غير الشرعي أو المحتل الأجنبي، فكلاهما غير شرعي نسبة لمنطق الأشياء، لكن الناس من خلال فرضية صوابية الواقع وصحته ابتداء تقبل ذلك الواقع وترى في غلبة المتغلب دليلا على الصحة، فلماذا إذن نقاوم ذلك الواقع مادام صوابا.

ولان هذه الفرضية تعتمد من دون دليل عقلي، فهي تمثل وعاء لفرضيات أخري غير عقلية مشتقة منها :

مادام الواقع وجد فلأن عملية إيجاده وما يحيط بها صحيحة في شقها النظري والواقعي، أي أن الصوابية لا تلحق الموجود وإنما أسباب الوجود و الموجد.

وهي نفس الفرضية التي تفسر قبول التونسيين بمساعي بورقيبة إلحاق تونس بفرنسا، فهم ضمنيا يقولون بصحة تلك الأفعال وبعبقرية بورقيبة مادام رافضوها ومعارضو بورقيبة لم ينتصروا.

وهي نفس الآلية التي تفسر شيوع فكرة الزعيم لدى الشعوب المقهورة أو حتى العصابات، لان أولئك ضحايا ينتهي بهم حال الرضوخ وتكاسلهم العقلي أن يصبحوا نهبا لآلية ذهنية تقول بصوابية الواقع و صوابية منتج الواقع أي الزعيم الذي ابتدأ فردا استولى على الواقع (سلطة، قاطع طريق، قائد عصابة,,,) وانتهى لفرد استثنائي.

وتستغل أدوات تشكيل الأذهان انتشار هذه الفرضية لدى الناس، فتضخمها، فتشيع فكرة أن الحاكم الذي استولى على السلطة ما كان له أن يبقى بالحكم لو لم يكن فعله صوابا ولو لم يكن الشخص عبقريا وقد يكون مسددا بالغيب أو له نسل شريف (حالة الأردن والمغرب مثلا).

تحت ضغط اللوم والرفض من المعترضين على الواقع، يحاول الضحايا المتأثرون بهذه الآلية الذهنية الفاسدة، أن يبرروا أفعالهم، فيدخلون مسار إنتاج تفسيرات لمواقفهم التي يظهر للعيان خطلها، وهذا يؤدي بهم لمساندة الواقع ثم تكريسه.

إذن فالآلية الذهنية المبنية على فرضية صوابية الواقع تنتهي بجعل الضحايا مدافعين عن ذلك الواقع ومروجين له، ومعيدي إنتاج له في أماكن أخري لو تيسرت لهم الفرصة، فخطر هذه الآلية أنها تجعل الضحايا في صف عدوهم وخدما لمشروعه

ما يجب توضيحه هنا أن الناس تفترض صوابية الواقع في ذاته وهي تخلط مكوناته بين واقع و موجد لذلك الواقع ومحتوى الواقع، يعني هي لا تنظر للأسباب حتى إن كانت تلك الأسباب هي التي انتجت تأثرهم بذلك الواقع.

مثلا، الناس تعتقد أن الشخص / الزعيم (3) الذي وصل للسلطة، له الحق في ذلك و أنّ فِعل الوصول للسلطة بطريقته التي أنجزها صواب (انقلاب، حكم تحت الاحتلال، حكم أسرة تزعم نسبا للنبي)، وهي الأرجح إنما تقول ذلك بفعل أدوات التوجيه الذهني الدعائي، و وصولها لتلك النتيجة في إسناد الواقع بفعل مغالطة ذهنية يكون أكثر فائدة للمتحكمين بذلك الواقع من الوصول لها بفعل نظر عقلي، من حيث القابلية لقبول التوجيه من دون ممانعة.

الرد على فساد هذه الفرضية:

1- اعتمادا على التبرير المنطقي

يجب أن نفرق بين ثلاث مستويات : عملية إيحاد الواقع وموجد الواقع ومحتوى الواقع.

من يقول بان الواقع جيد لا لشيء إلا لأنه واقع، هو بالتحديد يثير اللبس في مستوى إيجاد الواقع، لأن المستويات الأخرى يمكن تبريرها (موجد الواقع ومحتوى الواقع)، حيث من يدعم الواقع اعتمادا على كون محتواه أي قراراته الجديدة وتوجهاته الفكرية مثلا جيدة أو أن موجد الواقع / الزعيم جيد، فهذا موقف مبرر موضوعيا وليس من النوع الذي يقول بان الواقع جيد لأنه واقع هكذا، بقطع النظر كون تلك المواقف التي اتخذها قد تكون نتيجة توجيه ذهني، فذلك أمر آخر.

في مستوى إيجاد الواقع، فإنه لم يكن شيئا قبل إيجاده، فعيلنا إذن النظر في هذا التحول، كيف حصل.

حينما يعتقد الناس أن وجود الواقع صواب هكذا من دون النظر في الأسباب الموجدة لذلك الواقع، هي إذن تقول ضمنيا إما أن إيجاد ذلك الواقع تم من دون أسباب كما نفهمها أو أن الإيجاد في ذاته هو العمل الصواب.

حينما نلغي الأسباب الموضوعية في فهم إيجاد ذلك الواقع، فانه لا يوجد تفسير آخر يمكن الاعتماد عليه لتعليل صوابية الإيجاد (إذا استثنينا التفسيرات الغيبية التي لا تدخل في مجال بحثنا) فبطل هذا الإحتمال، فبقي الاحتمال الثاني وهو الاعتقاد أن عملية الإيجاد هي الصواب في ذاتها بقطع النظر عن السبب، لكن هذا الرأي إقرار بموجود و كل موجود لا بد له من بسبب، فنرجع وجوبا للنظر في أسباب وجود ذلك الواقع، وهذا جانب أبطلناه في الاحتمال الأول، فكان معنى ذلك أن هذه المحاججة فاسدة، و أنه لا معنى لاعتماد صوابية واقع من دون النظر في السبب.

2- اعتمادا على حجة الفاعلية الواقعية / حكم الأمر الواقع

يوجد تبرير آخر يعتمده ضحايا فرضية صوابية الواقع، والتي لا تعتمد على الصوابية المنطقية، وإنما يقولون بالفاعلية الواقعية، مادام ذلك الواقع وجد فهو صواب من حيث فاعليته واقعا، بمعنى لماذا قام هذا الشخص تحديدا بانقلاب ولم يقم به غيره ولماذا احتلتنا فرنسا ولم تحتلنا دولة أخرى، وكون ذلك وقع فذلك دليل صوابية واقعية أي حكم الأمر الواقع، بقطع النظر عن صوابيته المنطقية و الأخلاقية.

الرد على هذا التصور (4) :

أن تعتمد مبرر الواقع الفعال، لا يعني أنك تلغي وجود الأسباب الموجدة لذلك الواقع، حينما تقول مثلا أن الانقلاب وقع أو أن فرنسا احتلتنا لذلك نقبل بالموجود لأنه واقع، فذلك لا يعني أنك تلغي أن أسبابا جعلت ذلك الانقلاب يقع أو أن فرنسا اتبعت أسبابا لاحتلالنا.

الذي يحدث حين تبنّي تبرير الواقع عوض اعتماد التفسيرات التي تعتمد المنطق والقانون، هو جعل مبررات الإيجاد تتحول من أسباب تحكمها قوانين منطق وقانون معتمد لأسباب غير مضبوطة وعشوائية.

هناك عنصران في حالة الأمر الواقع، الزمن العشوائي و الفعل العشوائي.

إما أن العشوائية تخص زمن حدوث الفعل أي في مجال زمني معين كل وحدة زمنية فيه يمكن أن يحدث فيها فعل الانقلاب مثلا، أو أن العشوائية تخص نوع الفعل أي أنه في وحدة زمنية معينة يمكن لأكثر من فعل عشوائي أن يحدث.

المجال الزمني الذي تحدث فيه الأفعال الموجدة بحكم الأمر الواقع أصبح غير مضبوط لأن فعل الانقلاب مثلا غير محدد مسبقا لدى مرجع قانوني متعارف عليه، ذلك يعني أنه مجال يمتد من قدر صغير يقارب صفر وحدة زمنية لحد متناهي في الكبر زمنيا، هذا يعني أنه في مجال مكاني ما، فإن تغير الواقع سواء كان ممتدا يشمل حيزا بشريا كبيرا أو يتعلق بواقع فرد واحد، يكون وضعا محتمل الحدوث في كل وحدة زمنية، لأن أسباب إيجاد التغيير عشوائية ولا نعرف وقوعها فهي محتملة على كل الطيف الزمني، وليس يوجد مرجح يعطي أفضلية أو يمنع نقطة زمنية معينة بذاتها.

فيمكن إذن احتماليا القول بتعدد الأفعال المغيرة للواقع في نقطة زمنية معينة، ولا يوجد كذلك ما يمنع بتعارض تلك الأفعال ما دامت عشوائية، إذن فهناك احتمال أن كل نقطة زمنية هي مركز لإنتاج واقع جديد أي بالتوازي إلغاء واقع موجود.

إذن العشوائية تعني أنه لا يوجد واقع ثابت مادام كل المجال الزمني زمن هدم، وبالتالي فما نراه في حالة العشوائية أي حكم الأمر الواقع و في زمن ما، هو عملية هدم و إنشاء أي عملية متحركة في طور التشكل وليس واقعا مكتملا، ولما لم يكن واقعا فإنه لا يمكن الاعتماد عليه بما أنه ليس موجودا كاملا والصفات تتأتى بعد اكتمال الموجود، واتخاذ الموجود مرجعية للحكم يكون اعتمادا على صفاته المتشكلة والتي تظهر حينما يستقر ذلك الواقع وهو ما لن يقع في حالة العشوائية، ولما لم يكن موجودا تاما فإنه لا معنى للاحتكام إليه في إصدار التقييمات أو اعتماده كمرجع.

ولكل ذلك فإن الذين يقولون بالركون للأمر الواقع عليهم أن يعرفوا أنهم يعتمدون على موجود متحرك غير مكتمل، وهو غير جدير أن يعتمد عليه لأنه مؤقت الوجود ويمكن أن يندثر في أي لحظة باحتمالية تعادل احتمالية وجوده.

ونتيجة إبطال هذه الفرضية الفاسدة بشقيها، فإن من يساند واقعا معينا فإنه إما يدعم أسباب وجوده أو إنه ضحية لعمليات توجيه ذهني للقائمين على ذلك الواقع.

ب – الحالة الثانية:

يتفرع عن القول بصوابية الواقع، رأي يعتمد ذلك الواقع كمرجعية للحكم على صوابية الأفعال والمواقف، فهو من خلال ذلك الواقع يقيم الأشخاص والأحداث والآراء، فما اقترب من الواقع وشابهه في التجانس الفكري كان مقبولا ومن ابتعد عنه رفض، وخطر هذا الفهم أنه يعتمد واقعا انتجه بشر لتقييم بشر آخرين، إذ نجد مثلا واقع أن التبعية لفرنسا في تونس وكره الذات كوضع تابع غير سوي، يصبح هو ذاته مرجعا لتقييم الغير، فمن يرفض تسلط فرنسا ويرفض مغالبتها يصبح مرفوضا وقد يوصم بالمتخلف والمتطرف والقروسطي (5).

والرد على هذا الفهم، أن الواقع المعتمد كمرجعية من طرف هؤلاء لتقييم الغير، هو ذاته موضوع تقييم وتساؤل من الجهة المقابلة، ولا يمكن اعتماد ماهو موضوع بحث كأداة للحكم في نفس البحث، لأن ذلك تقييم مجهول بمجهول أي مصادرة على المطلوب يؤدي للدور / دوران، فبطل إذن الأساس النظري لاعتماد الواقع مرجعية لتقييم الغير، وأصبحت التقييمات التي يقوم بها ضحايا عمليات الإلحاق بفرنسا لرافضي ذلك الإلحاق، فاسدة.

من جهة أخرى فإنه يمكن الرد على هؤلاء بالقول أن من يرفض الواقع المرتبط بفرنسا، يقول بواقع آخر يعارض الموجود، فهنا واقع موجود مقابل واقع مقترح، وليس اعتمادكم على واقعكم بأكثر ترجيح عقلي من الواقع المقترح، فهما يستويان في الاحتمالية العقلية، بمعنى ليس لكم أي مبرر لكي تغلبوا مقترحكم.


الهوامش:

(1) يمكن الاعتراض بأن القول بانه إدراك فذلك يفترض أنه عقلي، ولكن هذا ليس بديهيا وهو كذلك ليس دائما، ثم إن الوعي عمل ليس بالضرورة حالة عاقلة على الأقل في مكون إيجاده، وسيقع تناول هذه المواضيع في بحث لاحق.

(2) الحقيقة هناك فرق بين صحيح وصواب، ولكننا هنا نستعملهما بنفس المدلول التقريبي كما يتداوله الناس حين تقييم الواقع من دون تدقيق، و إلا فإن صحيح غير صواب، فالصحيح يحيل للتقييم نسبة لشروط ذاتية للموجود تكون عادة مضبوطة أما الصواب فيحيل لتقييم نسبة لمرجعية خارجية تكون عادة احتمالية، مثلا فإننا نقول عن توجه فكري أنه صواب لأنه تقييم احتمالي وخارجي، بينما نقول عن توقيت الرحلة مثلا أنه صحيح لأنه مضبوط ومن مكونات الموجود.

(3) لا نريد ذكر زعيم بعينه لأننا نريد بدل ذلك التركيز على الفكرة وهي قابلية الناس البقاء ضحايا لعمليات التوجيه الذهني، نستثني من ذلك من يدخل في أصل الفكرة وهم بورقيبة والفواعل الإلحاقية التونسية (يسارية وإسلامية بشقيها الزيتوني ثم الحركي ممثلة بالاتجاه الإسلامي والنهضة) لأنها هي منطلق هذا البحث وهم سبب تواصل تحكم فرنسا فينا.

(4) هذا كلام يمكن أن يعتمد أيضا في الرد على انقلاب قيس سعيد الذي يبرره البعض بحكم الأمر الواقع.

(5) مثلما علق أحدهم على مقال : استبعاد اللغة الفرنسية شرط تفكيك الروابط اللامادية مع فرنسا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات