في فهم الربط المادي واللامادي بفرنسا

سعيا نحو إرساء أطروحة تفسر علاقتنا غير السوية مع فرنسا، أواصل التعرض للجوانب النظرية في مستوى الربط اللامادي معها، وهو كما بينت في مقالات سابقة المساحة الأخطر في علاقة التبعية التي تشدنا لمن احتلنا.

لأسباب عديدة، دأبت الفواعل المفكرة (1) التونسية على تناول علاقتنا مع كيان الاحتلال الفرنسي بخلل مفهومي واصطلاحي، أولا من حيث قصر علاقة الاحتلال على المستوى المادي، وثانيا من خلال التسليم بالمصطلحات التي أنتجتها فرنسا لوصف علاقتها بنا وهو الأمر الحاصل من غياب عمليات إنتاج مصطلحات من زاويتنا كتونسيين تتناول علاقتنا مع فرنسا كعدو كامن (العداوة تتراوح بين الظهور الكامل زمن التواجد العسكري إبان احتلالنا وصولا لحد التأثير اللامادي الحالي)، بل إن هذه الفواعل المفكرة لا تتعامل أصلا مع فرنسا كقوة محتلة سابقة.

حينما نتحدث عن عوامل الربط مع فرنسا، فالأمر في أوله يدور حول عوامل التأثير، لان الربط المقصود هو نتيجة لعملية تأثير تنتهي لنتيجة الربط بفرنسا الذي يتحول بمرور الزمن والتطبيع مع ذلك الواقع لارتباط بها، والعوامل إما مادية وإما لامادية .

لفهم مسار هذه الدراسة، لنأخذ عينات من عوامل التأثير المادي التي ترمي لربطنا بفرنسا، وليكن مثلا :اتفاقيات استغلال الثروات التونسية مع شركات فرنسية، إنشاء مدارس خاصة تونسية تدرس البرامج الفرنسية للتونسيين، إطلاق أسماء فرنسية على موجودات مادية تونسية كالشوارع والمستشفيات.

هذه النماذج ننظر إليها باعتبارها انحازا ماديا في ذاته أولا، فاتفاقية استغلال الثروات أمز مادي من حيث أن الموضوع أي الثروات أمر مادي يربطنا بفرنسا، والمدارس الخاصة التي تدرس البرامج الفرنسية للتونسيين أمر مادي من حيث أنها مدرسة، وتسمية شارع باسم شخصية فرنسية فعل مادي بحت في أصله.

أما عوامل التأثير اللامادي التي تربطنا بفرنسا فلنأخذ مثلا : قرار استعمال اللغة الفرنسية كلغة تدريس لأطفالنا منذ الصغر أو استعمالها بدل الانقليزية في المستويات المتقدمة، أو بناء منظومة تشكيل الأذهان الرسمية (تعليم، إعلام، ثقافة) بحيث تتعامل مع فرنسا من دون تبيان حقيقتها كدولة احتلال (ترويج مصطلح استعمار عوض احتلال، إنشاء إذاعة موجهة للتونسيين لنشر الثقافة الفرنسية بيننا (2),,,)

هذه عينات من عوامل لامادية تنبع من قرارا سياسي في أصلها يستصحب موقفا ضمنيا يقول للتونسيين بعلوية تلك اللغة وعلوية فرنسا كحضارة وهو يقول أيضا بصغارنا ويؤسس لعقلية الهوان واحتقار الذات، نحن إزاء عملية إنتاج لامادية لمواقف وأفكار وخواطر لدى الناس.

مدخل للفهم

- عوامل التأثير المادي ما إن تدخل الوجود حتى تتحول لعناصر إنتاج عوامل لامادية، فالمدرسة الخاصة مثلا التي تدرس البرامج الفرنسية للأطفال التونسيين وهي في أصلها موجود مادي، تصبح عامل إقناع بعلوية فرنسا أي تتحول لعامل لامادي, والإذاعة التي تروج للثقافة الفرنسية بين التونسيين، في أصلها موجود مادي لكنها تتحول لمركز إنتاج أراء وانطباعات تقول بعلوية فرنسا وثقافتها، وقس على ذلك أي عامل ربط مادي بفرنسا، كما يمكن للربط اللامادي أن يبدأ مباشرة كعامل لامادي، وهو الحال مع الأفكار والتصورات غير المنتجة محليا.

- عوامل الربط اللامادي تنتج بدورها مواقف ربط مادية (3)، فانتشار التصورات التي تقول بأن فرنسا دولة صديقة ولنا معها علاقات تاريخية، تساهم في التسريع بالربط المادي غير المتكافئ مع فرنسا بالسكوت عن الاتفاقيات المجحفة معها لنهب ثرواتنا، وحينما تصبح فرنسا لدى البعض قدوة ورمزا إيجابيا فإن ضحية ذلك الانطباع الغارق في عقد النقص واحتقار الذات، سيسارع مثلا بإرسال ابنه المتميز في الدراسة، لفرنسا لتستفيد منه عوض بلده، وسيعمل على شراء المنتوج الفرنسي من دون غيره، وإن كان رجل أعمال فإنه سيفتح مغازة بعلامة فرنسية من دون كل العلامات التجارية بالعالم.

الصيغة الرياضية

1- لفهم عمل آلية التأثير المادي واللامادي للإلحاق بفرنسا، فإنه علينا تناولها نسبة لمتغيرات، ولما كان مجال الدراسة هو الزمن وليس الأفراد مثلا (4)، فالمتغير سيكون الزمن.

2- تغير عوامل الربط المادي نسبة للزمن تمضي بطريقة خطية ثقيلة نسبيا ومستقرة، حيث لو أخذنا سنة معينة كانت بها اتفاقية مع فرنسا أوتم فيها بناء مدرسة خاصة تفرض البرامج الفرنسية كعينات لعوامل ربط مادي، ونظرنا للسنة التي بعدها، فقد نجد عددا من المدارس أنجز من جديد يساوي أو يزيد أو ينقص عن السنة التي قبلها، وقد لا تتغير النسبة أصلا، وقد يضمحل إنجاز ما كإلغاء او انتهاء اتفاقية.

إذن فعوامل الربط المادي بفرنسا حينما نأخذ كل عامل لوحده فإنه يمكنه البقاء ثابتا أو متصاعدا بنسبة معينة او ينخفض بنسبة ما، ولكنها في كل الحالات تغييرات ضئيلة نسبيا.

3-تغير عوامل الربط اللامادي نسبة للزمن لا يعمل بنفس طريقة عوامل الربط المادي لأن العامل المنتج يصبح نفسه منتجا لغيره نسبة للزمن، وهذه ملاحظة تنطبق على عالم الأفكار عموما.

لفهم ذلك لنأخذ فكرة أن فرنسا قدوة اقتنع بها مثلا فرد صاحب مشروع مدرسة خاصة تدرس بها البرامج الفرنسية (5)، فإنه في سنة معيارية ما سيقوم بنقل فكرته تلك لتلاميذ مدرسته، السنة المقبلة سنجد أن الفكرة انتقلت من واحد لعدد كبير من الأفراد، والسنة المقبلة فإننا سنجد كل من هؤلاء الأفراد نقل بدوره انطباعه للغير، وسيصبح العدد كبيرا جدا، يعني إذا أخذنا نتيجة المتأثرين الذين اقتنعوا بكون فرنسا قدوة وأنها ليست دولة احتلال، نسبة لمتغير الزمن، فإن العام الأول سيكون واحد مقابل واحد، العام الثاني سيكون مثلا مائتين مقابل متغير اثنان، والعام الثالث سيكون العدد بالآلاف مقابل متغير ثلاثة.

4- رياضيا، عوامل الربط اللامادي بفرنسا حينما نأخذ كل عامل لوحده فإنه يمضي تقريبا حسب متتالية هندسية (Suite géométrique/Geometric progression ) لأن العناصر تؤثر في بعضها بالمضاعفة، وإن كنا لا نعرف بالدقة الحد الأول لأن ذلك يختلف حسب كل رابط لامادي بعينه، لكنه كمتوالية هندسية، يمضي حسب صيغة نمو أسّي متصاعد (exponentielle)، وخاصيته أن الناتج ينمو بطريقة سريعة جدا مقابل المتغير الذي هو في حالتنا الزمن (أنظر للمنحنيات المصاحبة للتوضيح)


…

فهم العلاقة بين الربط المادي واللامادي:

- عوامل الربط اللامادي مع فرنسا أسرع نموا من عوامل الربط المادي معها، وبالتالي فالتأثير اللامادي لعلميات الربط بفرنسا أخطر من التأثير المادي لأنه أكثر انتشارا بين الناس،

- عامل التأثير المادي الذي أنتج التأثير اللامادي لا قيمة له عليه إلا في الإيجاد وليس في الإنهاء، يعني لنأخذ مثلا بناء مدرسة خاصة تدرس البرامج الفرنسية للتونسيين، فهي من حيث أنها موجود مادي أنتجت عامل ربط لامادي يقول بعلوية فرنسا ونشرت ذلك بين التونسيين وهم نشروه بدورهم بين غيرهم، لكن لو فككنا المدرسة وانتهى وجودها المادي، فإن ذلك لا يلغي ولا يمكنه إنهاء الانتشار لفكرة التعلق بفرنسا.

- يمكننا التحكم في زمن وجود عامل الربط المادي لإنهاء عناصر مستقلة، بينما الربط اللامادي فإنه ما إن يخرج من حده الأول فلا إمكانية لدينا للسيطرة عليه، لأن التأثير يصبح مرتبطا بعوامل أخرى تنتج بدورها التأثير وتعديه لغيرها، وهذا أهم عنصر في خطر الربط والتأثير اللامادي أنه تأثير متسارع ومستقل عن الفاعل الأول من حيث التحكم في الوجود.

- لان عناصر وسبب تكاثر النمو الأسي السريع للربط اللامادي موزع بين الأفراد، فان التحكم في نمو العملية لا يتم إلا من خلال هؤلاء الأفراد وليس بالتحكم الخارجي، وهذا يعني أن مقاومة الفكرة اي اللاماديات لا يتم من خلال التحكم المباشر وإنما من خلال التحكم في الفكرة في مستوى الفرد، تحديدا عند مستوى إعادة نشر الفكرة لدى فرد معين، فعوض أن يعيد الفرد نشر الفكرة، نعمل على إخمادها في مستواه بحيث لا تجاوزه لغيره.

- إخماد الفكرة موضوع التأثير اللامادي لدى الفرد هو الطريق الوحيد للتحكم في منحني النمو الأسّي للتأثير اللامادي، وهذه عملية تتمحور حول جعل الفرد يتخلى عن دور موزع وناشر الفكرة، هنا توجد احتمالات،إما أن التخلي يكون من خلال قناعة أو من خلال منع، ثم القناعة تكون إما من خلال استيعاب خطر نشر الفكرة موضوع التأثير اللامادي وليس بالضرورة وجود بديل لتلك الفكرة (مثلا خطر التبعية الذهنية بترك أبنائنا ضحايا لمدارس خاصة تفرض عليهم برامج فرنسية)، أو من خلال الاقتناع بفكرة أفضل (مثلا فكرة أن اللغة الفرنسية غير مجدية و أن الانقليزية بديل لها)، أما المنع فهو وسيلة غير مجدية لأنه تحكم محدود يتحرك في مجال الفرد ولا يمكنه الوصول لمجال عموم الأفراد وهو بعد ذلك ليس فعالا لأن الأمر يتعلق بالأفكار التي يصعب تتبع المقتنعين بها وبالتالي القائلين بها أي معيدي نشرها.

- الفكرة البديلة التي يمكنها وقف النمو السريع للمنحني الأسّي للفكرة موضوع الربط اللامادي، ستمر أيضا بنفس مسار النمو للفكرة موضوع الدفع والرفض، لكن يمكن التسريع في عمل المنحني للفكرة البديلة من خلال عامل الحد الأول أي مجموع الأفراد ناشري الفكرة أولا، ثم دورية أو سرعة الانتشار بين الناس، وهذان عاملان معقدان لأنهما بدورهما حاصل متغيرات عديدة لا تخضع لسلطة جهة واحدة.


الهوامش:

(1) قمت بنحت مصطلح الفواعل المفكرة وأستعمله عوض مصطلح النخبة، لان المفكرة وصف موضوعي لموجود، والتفكير في ذاته لا دلالة فيه لغير عملية التفكير ولا يجاوزها للحكم على الفكرة المنتجة ولا على منتج الفكرة، بينما النخبة وصف معياري / نسبي لموجود، حيث أن الانتخاب أي التمييز هل هو لاعتبار الفكرة أو لأمر مادي يتعلق بمن اعتبر من النخبة، إن كان التميز لغير الفكر فهو ليس من التميز المعني بإفراده مقياسا للتصنيف، و إن كان تميزا لفكرة منتجة، فإن هذا الحكم غير متفق عليه، لأن ذلك التفضيل يفترض مرجعية فكرية متفق عليها ابتداء تنحدر منها القيم المستعملة للتصنيف وهو مالا يقع حين استعمال مصطلح النخبة بإطلاقية وطمأنينة كما هو حادث الآن.

أما لماذا فواعل مفكرة بدل طبقة أو مجموعة مفكرة مثلا، فذلك أولا لكون المقصود هو التفكير الفعال الذي يجاوز مساحة الذات بقصد التأثير في المحيط فيستثنى من ذلك الخواطر مثلا التي هي تفكير غير فعال نسبة للواقع، وثانيا لأن مدلول الطبقة أو المجموعة يستصحب معنى الفكر المنتج في سياق مجموعة ثم معنى التجانس النسبي، وهو ما ليس بالضرورة لدى المؤثرين في الواقع، إذ يمكن للفواعل المفكرة أن تكون كثرة وتتحرك منفردة .

(2) من نماذج المراحل المتقدمة لإخضاع التونسيين لعمليات اقتلاع ذهني وإلحاق بفرنسا والمسكوت عنها، استعمال أموال المجموعة العامة لإنجاز مهام تصب في خدمة لغة فرنسا وثقافة فرنسا بإنشاء ما يسمى إذاعة تونس الدولية (RTCI) التي تمثل أداة غريبة تروج لفرنسا وللغة فرنسا ولنموذجها الفكري والثقافي بين التونسيين، فهي منبر دعاية فرنسية وربط لامادي بها بأموال تونسية للأسف.

لو كنا دولة سوية، فإن الإذاعات الدولية لدينا يفترض أن تكون موجهة للأجانب ولا يلتقطها التونسيون أصلا (لا يمكنك مثلا التقاط البي بي سي الموجهة للعرب داخل بريطانيا)، بغرض نشر ثقافتنا ولغتنا والتعريف برموزنا وحضارتنا ومواقفنا وخدمة لمصالحنا من خلال مخاطبتهم بلغتهم وليس لنشر ثقافة الغير ومواقفهم و آرائهم بيننا.

(3) أساسا الربط اللامادي ما جعل إلا لغرض الربط المادي أي الاستغلال المادي لتونس، في العموم يستثنى من ذلك الربط اللامادي في حالات تكون عمليات الإلحاق ذات قصد فكري عقدي لذاته، وهو ليس حالنا مع فرنسا و لا يكاد يوجد الآن بالعالم.

(4) يمكن دراسة تغير عامل مادي أو لامادي معين نسبة للأفراد، وسنجد أن التأثير يختلف من فرد لآخر (مثلا دراسة البرامج الفرنسية بمدرسة خاصة تونسية من حيث قدرته الإلحافية الذهنية بفرنسا يختلف من فرد لآخر، فقد نجد من يوافق ويندمج وقد نجد من يرفض ذلك رغم دراسته البرامج الفرنسية)، لكن هذه عملية لا قيمة لها في موضوع دراستنا لأنها لا تلغي أولا تواصل التأثير وثانيا تنظر في مجال الفرد فقط.

(5) قد لا يكون صاحب تلك المدرسة على وعي بعملية الإلحاق بفرنسا ولا بالدور المشبوه الذي تلعبه مدرسته، لكن مسار عملية الربط اللامادي بفرنسا غير مشروط بتوفر الوعي في إطلاقها، لأن مسارها مستقل عن الموجد الأول وهو صاحب المدرسة، بالمقابل فإن مدلول تدريس البرامج الفرنسية للتونسيين هو ضمنيا الإقرار والسعي للإقناع بعلوية فرنسا ولغتها وحضارتها وتقديمها في النهاية كقدوة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات