البلد الذي لم يُخدَش فيه جلاّد مجرم،

بعد هروب السفّاح بن علي وسقوط النظام، قابلٌ للركوب المهين والتشييء بلا حدود…

بلدٌ ارتكَب فيه نظام الاستبداد على مدى عشريّتين على الأقلّ (خلّينا من الاستبداد البورقيبي) كلّ أنواع التشريد والقهر والتجويع والتعذيب والاغتصاب والقتل المادي والرمزي في حقّ مناضلين من أجل الحقوق الدينا، وفي حقّ عائلاتهم وأطفالهم…

ثمّ يهرب رأس الإجرام ويسقط النظام وتعمّ الفوضى ولم يُصفع أو يخدش أو يُجرح جلاّدٌ واحد من بين آلاف المجرْمة معروفي الملامح والعناوين…

بلد مثل هذا وشعب مثل هذا قابل للركوب ولكلّ أنواع المسخ والتشويه…هو مادّة خسيسة وطيّعة وقابلة لكل صورة… فأيّ حياة لضحية ترى جلاّدها، بعد الثورة، يفاخر بجريمته في حقها ويتهمها ويجرّم نضالها مرّتين…

ما حدث ضدّ طبيعة الأشياء…في عالم الإنسان والحيوان والجماد…


"فالذئبة حتّى الذئبة تحرس نطفتها…

والنملة تعتزّ بثُقب الأرض… " مثلما قال الشاعر…

فلا غرابة أن يخرجُ فيه الجلاد بعد سنة من الهروب متباهيا في وسائل الإعلام (ضيف نوفل الورتاني لو تذكرون) بجرائمه، وهو في كل ذلك مدعوم بمن امتهن وظيفة البوليس السياسي عند بن علي ولم يتورّع، حين لم يُحاسب من قبل الثورة، عن سؤال الضحيّة عن ثمن الكيلو نضال، ولا عن تذكيرها، في سياق البوليميك السياسي بأشكال التعذيب الذي سُلّط عليها (الفانتا)، لينتهي إلى اتهامها بالإرهاب، بعد أن لَغَفَ من الروز وقطع الطريق وأمّن استعادة "الكومبرادور" للحكم ورأس الدولة…وانتهى وظيفيا رثّا كما بدأ بوليسا سياسيا منحطّا…

ولا غرابة أن تُجهض فيه العدالة الانتقالية وهي في أصلها مطلب القديم وهو يرتدي السفساري ذليلا. وأن تجتهد رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة في طمس الهوية السياسية لضحايا التعذيب الاغتصاب من النساء خاصّة. وأن تعبث بمسار كان يمكن أن يكون أرضية مصالحة تاريخية بعد المساءلة والمحاسبة وجبر الضرر واعتذار الدولة والجلاد للضحية. وأن تجتهد اليوم وقد تحققت مسؤوليتها في إجهاض نواة الانتقال الفعلي في السياسة والاقتصاد أي العدالة الانتقالية لتحميل المسؤولية لأوّل غبيّ شمله هذا المسار وكان جزءا منه.

ولا عجب في أن يشارك أبرز ممثلي الضحايا في إجهاض مسار العدالة الانتقالية بمصالحة موازية لمسار العدالة الانتقالية بشروط الجلاّد، فاكتمل استهداف المسار من داخله وخارجه.

صفقة سمّيت زورا "مصالحة اقتصادية" تمكّن من خلالها الباجي من تسديد رشاواه لمن موّلوا النداء وساهموا في فوزه بالرئاسات الثلاث. ويواصل، ممثل الضحايا نفسه، اليوم باسم مصالحة لا تجتمع شروطها وتُلغى فيها المحاكم المتخصّصة فيما ارتكب من انتهاكات جسيمة لا يمكن أن تُطوى إلا بمحاكمة عادلة تُنصف، ولو جزئيا، الضحايا وعائلاتهم.

المصالحة والتسوية التاريخية يفرضها واقع الانقسام الذي تعرفه البلاد، ولكن لا يمكن أن تتمّ إلاّ بشرطين:

-شرط المساءلة والمحاسبة جبر الضرر واعتذار الدولة والجلاد.

-شرط الالتزام بالديمقراطية ومسارها مقدّمة لرأب الصدعين السياسي (الهووي) والاجتماعي.

التلازم بين مسار العدالة الانتقالية ومسار بناء الديمقراطية والمواطنة حقيقة موضوعية لا يمكن تخطّيها. وما لم يعد بناء مسار العدالة الانتقالية في علاقة بالديمقراطية ومسارها، فإنّ البلد قادم على احتراب مدمّر ينهي ما بقي من ظلال الدولة والإدارة والعيش المشترك.

ولئن هالنا تخاذل وانكسار من الضحيّة (ضد الطبيعة الإنسانية) يعكسان في جانب منهما ما طال هذه الشخصيّة من خضدٍ للشوكة وكسرٍ للإرادة ومن قتلٍ رمزي جبان، فإنّ انهيار مسار العدالة الانتقالية وردّ الحقوق في علاقة بتواصل استهداف شروط الديمقراطية سيفجّر غيظا أسود يدفع الضحية إلى أخذ حقها بيدها وإخراج دفينها في الخرسانة وهدم الجسر في مواجهة عجز المؤسسة واستهتار النخبة بها وبحقها وبكرامتها وتماديهما في العبث بما به تكون إنسانيتها.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات