الدولة والنخبة وثقافة النّاس

1

اجتهدتْ دولة الاستقلال وصنيعتها "المجتمع المدني" ونخبته المنتحلة للحداثة في ازدراء ثقافة الشعب الأهليّة وتهميشها وتجفيف منابعها القيميّة ورصيدها من تقاليد التضامن وأشكال الانتظام الأفقيّ وطرق تدبير المعاش الجماعي وأساليب مواجهة الجوائح والأوبئة وأزمنة الجفاف وندرة الموارد.

الدولة احتفت بمجتمعها المدني وتركت المجتمع الأهلي هامشا للعراء، هذا جوهر الانقسام الذي نلحّ على الانتباه إليه في مقاربة المشكل السياسي الاجتماعي في بلادنا، لأنّ الخطأ في فهمه وتبيّن أثره سيفضي حتما إلى خلل بنيوي في كلّ مشروع نهوض تنموي.

ولم تكتف بهذا، بل ثابرت على تجريده من ثقافته وقيمه وتقاليده ولم تترك له سوى باب إحسانها الذي هو في حقيقته منّ وأذى. وخلاصة الأمر أنّه لا هي غطّته اجتماعيّا بمخطّطاتها التنمويّة وثقافيّا بحداثتها المجلوبة، فهو جزء من مجالها. ولا هي تركته لتقاليده وثقافته الأهليّة وقيمه يحقّق بها تنميته واكتفاءه وينحت بها حداثته المطلوبة.

ويشمل تجفيف المنابع في تقديرنا أيضا ما تعلّق بهذه السياسة من احتفاء بالميّت والمفوّت من ثقافة الحداثة وتعمّد إغفال الحيّ منها والإنساني المتجدّد.

2

وتمثّل الثقافة الإسلاميّة وما اصطبغ بها من تقاليد محليّة أساس الثقافة الأهليّة. وقد عمدت الدولة إلى تأميم الإسلام والتكلّم باسمه. وفي هذا السياق واجه بورقيبة الزيتونة ليس بسبب مرجعيّتها الإسلاميّة، ولم يواجه الإسلاميين لأنّهم إسلاميّون وإنّما لأنّ الجهتين الزواتنة والإسلاميين قدّموا معنى دينيّا من خارج عن "دين الدولة".

وفي ملف بريسبكتيف في أواخر الستينيات لا أثر للبعد الديني في مواجهتها من قبل النظام البورقيبي، فلم يتّهمهم بمعاداة الإسلام، بقدرما كان التركيز على "تشويشهم السياسي" وعلى وصم الدولة بالتبعيّة وسياساتها بالرجعيّة، وهذا يثير حفيظة بورقيبة الذي يريد أن يظهر ممثلا للحداثة أمام الماركسيين وممثلا للإسلام أمام الإسلاميين. ولو أنّ بريسبكتيف فكّرت في تنّبي ثقافة الشعب في مواجهة الدولة التابعة بفهم اجتماعي كفاحي للإسلام لحاربهم بورقيبة باعتبارهم زنادقة وخوارج همّهم محاربة "الدين الحنيف" "دين الشعب".

ومن هذا المنطلق يبدو بورقيبة ألطف مع الماركسيين وأعنف الإسلاميين لا لأنّ بورقيبة "اشتراكي" وإنّما لأنّ الإسلاميين نافسوه في المجال الأخطر، مجال الدين وثقافة الجماهير.

في المشرق أُمِّمَ النفط وفي المغرب أُمِّمَ الدين.

فالدولة مع بورقيبة هي الممثل الشرعي والوحيد للدين وقد تسنّى لها سجنه في الدولة بنصّ دستور 59 في فصله الأوّل الذي تمّ ترحيله إلى دستور 2014 استنادا إلى تصوّر بائس للدين ومفهوم رثّ للدولة.

3

تجربة دولة الاستقلال تطوّرت في علاقتها بالدين والثقافة الوطنيّة من الإصرار على تأميمها والتكلّم باسمها وتقليصها إلى مستوياتها الدنيا وإحياء ميّتها والاحتفاء بتافهها (بورقيبة) إلى تجفيف منابع ثقافة الجماهير ومحاربة قيمها المؤسسة (بن علي) كان وذلك مع محمد الشرفي الذي يعكس انحدار مشروع التيّار الماركسي إلى محاربة الثقافة الوطنيّة العربيّة الإسلاميّة ثقافة الجماهير الشعبيّة. فالشعب مسلم أولاً وآخرًا.

وهو انحدار جعل من أهمّ فصائل هذا التيّار بوليسا سياسيّا عند بن علي، وكان فصيل الوطد من أعتى جلاّدي الشعب، وما كان ليفلت من المحاسبة على جرائمه، بعد هروب بن علي وسقوط نظامه.

لم أستعمل، في هذا السياق، عبارة اليسار في الحديث عن مثل هذه الفصائل السياسيّة بما في ذلك بريسبكتيف وتجربتها النضاليّة الرائدة. ولا استعملت عبارة "اليسار الوظيفي" لأنّ اليسار لا يمكن أن يكون يسارا إذا وقف في المكان المقابل لثقافة الجماهير وعقيدتها أيّا كانت هذه الثقافة وهذه العقيدة. ولنا في الخطّ السنديني والخطّ البوليفاري المثل، وقبلهما تجربة الكتيبة الطلابيّة الفلسطينيّة في جنوب لبنان في سبعينيّات القرن الماضي التي انطلقت "ماويّة" وانتهت - وهي تبحث عن "خطّ الجماهير" - إلى تأسيس النواة الأولى للجهاد الإسلامي داخل الأرض المحتلّة (مدينة الخليل) في بداية الثمانينيات.

4

لا يكون الخط الكفاحي ديكولونياليّا إلا إذا أحسن التمفصل مع ثقافة الناس. ولذلك فالجميع مدعو إلى تحسّس "ثقافة الناس" ثقافة الحشود"، وفي مقدّمتهم الإسلاميّون... فيجب ألاّ يتوهموا أنهم الأقرب إلى الناس، وأنهم غير مدعوين إلى تفقد هذه العلاقة !!!

وثقافة الجماهير ليس مقولة فضفاضة ولا مفهوما غامضا يفتح على الشعبويّة بقدرما هي اجتهاد في تبيّن محفّزات الناس على الفعل الموجب والدفاع عن المعنى والقيمة.

لعبت المجاميع التجمّعيّة الماركسيّة والفرنكفونيّة من كوادر الدولة وخاصّة في العهد النوفمبري دورا بارزا في تجفيف منابع ثقافة الأم والأهل، ثقافة الشعب، الثقافة الوطنيّة...واجتهدت في محاصرة موارد فعلها ومؤسساته الأهليّة كالأحباس والعمل الخيري الجمعياتي وتقاليد التضامن والتآزر وكلّ أبواب البذل والعطاء. واشتدّ هذا التوجّه، بعد الثورة باسم محاربة الإرهاب. وكان آخر أبواب الخير التي أوصدت منذ سنة مشروع قانون صندوق الزكاة. وبقطع النظر عن ملابسات تقديم المشروع، فإنّ من عارضه أشباه لا من جهة علاقتهم بالحداثة وثقافة الدولة. وأغلبهم بلا تاريخ سياسي.

5

تظهر سياسة تجفيف منابع الثقافة الوطنيّة ثقافة الناس وهي ثقافة عربيّة إسلاميّة، ويظهر غيابها والفراغ الذي تركه في مواجهة الوباء الزاحف. فللدعاء دوره في توازن الفرد، ولأشكال التضامن دور في الإشعار بالمواجهة الجماعيّة للخطر. وكان يمكن لمؤسسة الزكاة أن تلعب دورا بارزا في توفير التجهيزات الطبيّة والتلاقيح. هذا فضلا عن دورها في الأوقات العاديّة في هيكلة المجتمع التونسي وتجاوز انقسام أهلي/مدني باتجاه المجتمع التونسي الجديد الموحّد. وتكون المؤسسات الأهليّة كصندوق الزكاة والأحباس (الأوقاف) قاعدته الماديّة التي من خلالها يكون شريكا للدولة في التعليم والاقتصاد والسياسات العامّة. ولا يقنع بأن يكون مجرّد موضوع تصنع منه الدولة بمدرستها وجامعتها ومؤسستها الثقافيّة الفرد الذي تريد.

بشيء من التركيز نتبيّن جريمة سياسات تجفيف المنابع واستهداف ثقافة الشعب ودورها في ضرب شروط التنمية المحليّة.

في هذا السياق، كان للخبير العراقي التونسي البروفيسور دارم البصّام، مداخلات منهجيّة في موضوع التنمية المحليّة والاقتصاد التضامني. توقّف عند شروط الحكم المحلّي من جهة التنمية. فاعتبر (وهو الشيوعي القديم، كما ذكّرنا) أنّ الحركات الإسلاميّة باعتبارها حركات اجتماعيّة من أهمّ شروط الحكم المحلي والتنمية المستدامة. واعتبر أنّ جوهر الحكم المحلّي يتمثل في تحويل التقاليد المحليّة والثقافة الأهليّة والقيم الروحيّة إلى قيم تنمويّة. وأنّ الثقافة الأهليّة أحد أهمّ شروط مقاومة ثقافة العولمة وأدواتها في السيطرة. وبمثل هذه الثقافة تُتجاوز المركزة وتعاد صياغة الدولة لكي تغطّي كلّ مجالها فتخرج من جهويّتها وتُمنح صفة الوطنيّة بجدارة لأوّل مرّة في تاريخها…

من مظاهر تجفيف منابع الثقافة الأهليّة تغييب تجربة جمنة الفذّة، وهي التجربة التي تهاونت حكومتا الترويكا على القبول بها تجربة عمليّة سابقة على القانون وعليه أن يدور معها...وهي التجربة التي واجهتها الدولة عند عودة القديم في 2014 بواسطة وزيره كورشيد فحاجج، بلا حياء، جمنة بقانون بن علي الذي أسقطته الثورة.

6

الدولة بقياداتها البائسة تخرج من حين لآخر، هذه الايّام، مدّعية مواجهة الوباء ومساهمة في تلقّي مساعدة الأشقاء والأصدقاء (تسوّل رسمي: من الدولة الفاشلة إلى الدولة المتسوّلة) بخطاب متخشّب لا روح فيه متنكّبا المشترك القيمي والروحيّ ومتحاشيا مخاطبة الشعب بما يفهم.

ليس في هذا قبول بالسائد "بوه على خوه" واعتبار ما أسميته ثقافة شعبيّة "جوهرا فردا"، ففي الموضوع تفصيلات وتدقيقات ليس هذا مجالها، فهذه الثقافة الشعبيّة بدورها مستويات ومنعرجات….ولكنّ يمكن توخّي الحيّ منها والمتّقد وما يكون عامل طمأنة وشحذ للعزيمة ودفع إلى المقاومة، وكلّ ما يساعد على الانتصار المعنوي على الموت الداهم…ومع الوقت، وتحت سقف الحريّة ستحسن التمييز بين غثّ هذه الثقافة وسمينها وبين ما مات منها وشبع موتا وما بقي منها متوهّجا بمعاني الحياة والأمل المتجدّد.

إذا لم تكن لكم الشجاعة على الانطلاق من ثقافة الناس ومخاطبتهم بما يفهمون، وحثّ إعلامكم على أن يحذو حذوكم، فلا حقّ لكم أن تحرموهم من أن يروا أنفسهم بأعينهم، وأن يعبّروا عن أحوالهم بطريقتهم بما في ذلك مرضهم…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات