ماذا تريد فرنسا من تونس؟

من المؤسف انه لايزال لدينا من يصدق ان العلاقات بين الدول يمكن ان تُبنى على الحُب، وانه يكفي ان ترقص راقصة امام "ماكرون" حتى نأخذ منه شيئا، او انه يكفي ان نذرف الدموع على "نوتردام" حتى نكسب قلب فرنسا. حتى عندما تركت فرنسا والمانيا ايطاليا، وهي اقرب لهم منّا ، تواجه مصيرها ضد "الكوفيد"، لم نفهم ان الدول تستثمر في الازمات لتفرض شروطها.

الدول بصفة عامة، والدولة الاستعمارية بصفة خاصة، يحكمها "عقل حسابي" وبراغماتي، وتسعى دوما الي تحييد الارتجال الذي يقوم به الافراد وتعويضه بالمؤسسة: من اهم ما قام به "ماكرون" هو "مجلس الدفاع والامن القومي" الذي يجتمع كل اربعاء، وهو يجمع اهم الوزراء واهم الموظفين السامين الموُكلة لهم مهام الامن الداخلي والخارجي لفرنسا (حول هذا المجلس ومهامه انظر "لوبوان" 5 جويلية 2018 عدد 2392). يحدد هذا المجلس بشكل اسبوعي سياسة فرنسا في الاسبوع القادم، بداية من الاغتيالات (نفس العدد ص 33) الي تحريك ال 13 الف عسكري الموزعين على مالي وبوركينا فاسو والنيجر وجنوب لبنان والامارات. تُنفق فرنسا سنويا على هذه الترسانة 198 مليار يورو.


…

الزيارة العجيبة

كانت زيارة الوزير الاول الفرنسي وفريقه الي تونس عجيبة بكل المقاييس: هي اول زيارة يقوم بها هذا الوزير للخارج، ولم تقدم فيها فرنسا غير مبلغ زهيد لم يتجاوز 80 مليون يورو، و"اعلان نوايا تخص التجارة والفلاحة والرقمنة"، وهو ما يجعلنا نذهب الي ان غاية الزيارة وهدفها لم يُعلن خلال المؤتمر الصحفي، باستثناء بعض العبارات من قبيل "وضع خبراتنا على ذمة تونس لبعث وكالة للتصرف في الديون لتحقيق التوازن في الموارد المالية"، او العبارة "التاريخية" "مُصاحبة تونس في ازمتها الحالية"، او ما نطق به السيد ماجول من "شراكة فرنسية تونسية مع ليبيا". سنحاول تقصّي هذه الزيارة اعتمادا على العبارات المذكورة.

"مصاحبة تونس"

هي عبارة "ديبلوماسية" تواترت بكثرة في الصحافة الفرنسية خلال زيارة الوزير الاول الفرنسي لتونس، وهي نفس العبارة التي وقع استعمالها خلال ازمة تونس المالية سنة 1870-1868 ، نفس الظروف ونفس الازمة ونفس العبارات. كانت تونس منهارة اقتصاديا نتيجة قرض 1868، والذي تبخّر بين ايدي محمود بن عياد ونسيم شمامة ومصطفى خزندار والقنصل الفرنسي ايضا. وعندما هرب محمود بن عياد بخزينة تونس الي فرنسا رفضت ان تُعيد الاموال لتونس، لقد كانت تريد مزيد تعفين الوضع المالي حتى تنضج "الحماية".

يقول قانياج " لقد كانت فرنسا تفكر باحتلال الجريد والصحراء التونسية مقابل تحمّل جزء من ديون تونس". كانت العبارات المستعملة هي "مصاحبة تونس" و"الاخذ بيدها"، وهو امر لم يكن ينطلِ علة الانجليز والطليان، وهو ماادى في الاخير الي "الكومسيون المالي".

واليوم؟ مصاحبة تونس لماذا والي اين؟ نفس الاسباب: نخبة تونسية فاسدة وصبيانية، انتجت المديونية، فتدخلت فرنسا التي عملت بلا ادنى شك على تعفين الوضع السياسي والاقتصادي في تونس. مصاحبتها الي اين؟ الي الدائنين، حتى تُعيد جدولة ديونها، ذلك كل ما تستطيعه فرنسا، وليس ذلك بقليل ابدا. تعني الجدولة تغيير بنود الدين المتعلقة بسعر الفائدة، او بآجال استحقاق الدفعات، عبر تمديد فترة السداد، او بهما معا. ولان اهم الدائنين ينتمون ل"نادي باريس" والتي منه فرنسا، فان هذا يمنحها وضعا مماثلا لوضعها سنة 1868 عندما كانا الدائنان فرنسيان. "مصاحبة تونس" تعني، اذا في المقام الاول، التوسط لدى الدائنين حتى يعيدوا جدولة ديوننا. ولكن هذا التوسط لن يُقبل من طرف الدائنين الا في حالة واحدة: متى قدمت الدولة الوسيط ضمانات للدائنين، وهذا المعنى الثاني ل"مصاحبة تونس": فرنسا تقترح تقديم ضمانات للدائنين . فما الذي يضمن للضامن؟

هنا بيت القصيد ، وهنا مربط الحمير الذين دفعونا الي هذه الحالة، سواء كانوا ينتحلون "السياسة" او "النضال النقابي": ما يضمن لفرنسا هو "كوميسيون مالي" جديد. الامر آلي وليس فيه مكان للتخمينات: لا احد يعطيك امواله بلا ضمانات.

"وضع الخبرات الفرنسية على ذمة تونس وبعث وكالة للتصرف في الديون"

هو نفسه تعريف "الكومسيون المالي" الذي نجده في البند الرابع من قرار الباي في 5 جويلية 1869. انقسم الكوسيون الي هيئة ادارية واخرى تنفيذية، الاولى برئاسة متفقد المالية الفرنسي "فيلليه" والثانية يراسها ممثلين عن الدائنين "ايرلانجيه" و"بينار" وكذلك فيلليه. مهمة الكومسيون مراقبة موارد الدولة الضريبية والفلاحية والمنجمية ومراقبة المواني لضمان ذهاب المداخيل لسداد الديون.

يكفي ان نسال اي مختص في المالية العمومية للدولة التونسية عن مداخيل الدولة حتى نعرف الموارد التي سيضع "الكومسيون المالي الجديد" يده عليها لضمان سداد الديون. الزيت والقمح والتمور والثروة المنجمية وكذلك المداخيل الضريبية والمواني. مقابل ماذا؟

"الشراكة المُميّزة"

مقابل "تفاهمات" و"اعلان نويايا": اعطاء فرنسا اولوية الاستثمار في التجارة والفلاحة والمواني والاتصالات، واستبعاد المنافسين. وليس هذا فقط: فرنسا تعرف انه لا حظ لديها في ليبيا ولا تستطيع ان تُنافس هناك روسيا وليبيا، وتعرف ان "هناك" في تونس من هو وجيه لدى حكومة طرابلس، لذلك هذه بتلك: اعادة جدولة الديون مقابل التوسط لها لدى حكومة طرابلس.

وهذا ما نطق به السيد ماجول "شراكة فرنسية تونسية في ليبيا"، ونحن نعرف ان الرأسمال الفرنسي يتخفى دوما داخل الرأسمال المحلي في افريقيا للهروب من الضريبة وللحصول على الاولوية في الاستثمارات، نظرا لان الرأسمال المحلي يدخل دوما في علاقة "رشوة" مع السلط في العالم الثالث.

ان العبارة التي كتبها موقع الرئاسة التونسية خلال زيارة المنفي لتونس جديرة بالتفكير " مساعدة ليبيا في مسار الانتقال الديمقراطي"، وعندما نعرف ان ليبيا لها عقبة واحدة في هذا المسار وهو حفتر، وعندما نعرف ان فرنسا هي الداعم الرئيسي لهذا الاخير، نستطيع ترجمة العبارة كالتالي: فرنسا تقترح التخلي على حفتر مقابل ضمان حصتها من عملية اعمار ليبيا واستبعاد روسيا. كل إشكال فرنسا هو التالي: انها تعرف العنوان الصحيح في تونس ولا تريد ان تتوجه له، وان كل الذين عوّلت عليهم هُزموا، سواء في ليبيا او تونس او الجزائر، وسوف تظل تضغط بهم وتعطل كل شيئ في سبيل تحصيل بعض المكاسب. صراع فرنسا في ليبيا ضد تركيا وروسيا، وسلاحها الوحيد حفتر، وفي تونس صراعها مع تركيا، وسلاحها "على كل لون ياكريمة"، وصراعها في الجزائر مع الصين وروسيا، وسلاحها "القبايل" ونخبة عسكرية استبعد تبّون اغلبها.

على كل، سننتظر لنرى: اذا حدثت زيارة لاحد الشخصيات "المهمة" في تونس في قادم الايام لبريطانيا، او امريكا، او الصين، او تركيا، فان ذلك يعني ان تونس لم تقبل الشروط الفرنسية، وانها تبحث عن بدائل. ننتظر ونرى.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات