البعض يعتبر نفسه شمسا تضيء الكون ولا يستطيع احد الاقتراب منها!

صحيح، ان الحديث عن الوعي بالمرحلة التاريخية التي تمر بيها الشعوب يحتاج تحليلا طويلا وتفصيلا خاصة في وقت الازمات مثل تلك التي تمر بها تونس حاليا حيث لا يستطيع ان يختلف اثنان ان الواقع انما هو أكثر تأزما مما كان ينتظره اكثر الناس تشاؤما. واما عن أسباب ذلك الموضوعية فهي معروفة تقريبا لدى كل النخب وخاصة تلك التي في حلبة أُخذ القرار. وهنا، اريد ان اتعرض الى بعض النقاط المتعلقة بتعدّد وجهات النظر الخاصة بالواقع الذي هو واحد.

- في كل الازمات التي نعرفها، تتكاثر وجهات النظر المتناقضة، وذلك للأسباب التالية :

(1) اختلاف المواقع،

(2) اختلاف مستويات التفكير،

(3) اختلاف المصالح،

(4) اختلاف مستويات الوعي بعمق الواقع،

(5) اختلاف درجات الانخراط في تغيير الواقع، و

(6) اختلاف درجات الصدق في الفعل وفي الكلمة. وذلك هو المجتمع عموما.

- في كل الازمات، تقع نقاشات حادّة بين القادة، وبين المفكرين، وبين النخب، وبين اصحاب النفوذ، وهذا طبيعي جدا وهو ناتج حسب رايي من العوامل الستة اعلاه.

- في الازمات تُفرز مواقفٌ لكبار المفكرين، لو نخرجها من سياقها نجد فيها منسوبا مرتفعا من العنف. فالاقتصادي كاينز مثلا، ينتقد بشدة ديفد ريكاردو في شخصه، ويضيف إن كل الاقتصاديين التقليديين "يسبحون في فضاء إقليدي لم يكن يومًا موجودا". ومن جهته، فون هيّاك، ينتقد كاينز انه غير مُطّلع على نظريات علم الاقتصاد، وميلتن فريدمان يستهزء بكاينز مُبرزا انّ العملة لا تؤثر في الانتاج والتوظيف، ويستعمل كلمة "هيليكوبتر العملة" في اشارة الى السياسة النقدية التي يؤمن بها كاينز، …

وحتى رجالات السياسة لم يتحصنوا من الانتقاد، مثل كروغمان الذي في كل يوم تقريبا ينشر تغريدة في تويتر ضد ترامب وسياساته الاقتصادية.. كما نجد استقالات من اناس مهمين مثل كاينز من الوفد البرطاني في قمة فرساي، او الاقتصادي المهم فارو داكيس من حكومة اليونان علم 2013 ابان ازمتها المالية..

- لكن هذه الانتقادات، كانت لازمة لكي يستفيد منها المعني بها ليحسّن من ادائه.

- لكن في بلدنا عندما ننشر شيئا لفائدة الشأن العام، كلٌّ يقول "انا اللّي يقصد فيّ، وما كاروش، واش بيه ولّى ينتقد، وفاش قام"،…. والبعض يعتبر نفسه شمسا تضيء الكون ولا يستطيع احد الاقتراب منها! وهذا لا يصح الاّ في المجتمعات ما قبل الاقطاعية، حيث قاداتُها يستلهمون شرعية وجودهم من مصادر لاهوتية، أي انهم ليسوا محل الخطء والنسيان!

- يعني، عندما نلاحظ ان وزير التنمية مثلا في وقت معيّن لا يفقه أسس التنمية ومواردها ولا أنواعها فضلا عن نماذجها واستراتيجياتها ولم يقدم طيلة عهدته تصورا للتنمية المناطقية مثلا، وتراه يبحث عن تمويل المشاريع معتبرا نفسه وزيرا للمالية… ماذا عسانا نقول؟ انه وزير ناجح، او نصمت لكي لا يغضب؟

او عندما نلاحظ ان الدَّين العام اصبح غير مستدام منذ عام 2015، حيث كان من الضروري اعتماد استراتيجية التداين وسياسات اقتصادية تعديلية كأولوية قصوى، في حين ان التركيز كان على "كتلة الأجور" المسكينة التي حملت أعباء تدهور الواقع الاقتصادي والاجتماعي الحالي!! ما عسانا ان نقول تجاه "النجاحات والانتصارات المُعلنة" ؟ نقول ان الوزير ناجح ولا يشق له غبار لكي لا يغضب؟

على كل حال، هناك العديد من الاختلالات في الوزارات الاقتصادية والمالية وجب تقييمها. الامر الذي لم يقع الى يومنا هذا، بل "النجاح" و"الفشل" جاءا قرارا وحكما مسبقا من المعارضة دون أدلّة مقنعة ودون منهجية علمية.

- شخصيا متاكّدٌ اننا لن نستطيع ان نتقدم ونجابه التحديات الا :

(1) اذا كانت لنا ثقافة التقييم المنهجي (يحتاج الى تفصيل) و

(2) ما اذا تقبّلنا النقد العلمي. علمي لأنه بنّاء.

ومن أراد ان ينخرط في التغيير وجب عليه ان يبدا بنفسه، يقوم بمصالحة مع نفسه ومع المحيط الذي هو حوله، ويعرف حدوده لان في العلم هناك درجات في كل ميدان، تبدا "بالعظماء" والذين هم على عدد اصبع اليد الواحدة وبعد ذلك هناك "الكبار" والذين هم قليلون لكن اكثر من العظماء"، وبعد ذلك هناك "المبدعون في جزء مالعلم"، وبعدهم "الممتازون" والذين هم قليلون كذلك، ثم يأتي الذين "لهم مساهمات تطبيقية"، وبعدهم الاتباع….. الى ان يأتي المرددون..

"العلم بحر، شاطئه بدون ساحل".

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات