مع الاحترام لكل الأطباء وأهل العلم،

فإنّ "العلميّة" لم تكن المعيار في اتخاذ القرارات المُعلنة وذلك على الأقل للأسباب التالية:

(1) الازمة الحالية ليست صحيّة فقط، وليست اقتصادية فحسب، وانّما هي مزيجٌ من الاثنيْن ووجب حماية صحة المواطنين من ناحية وضمان الحد الأدنى من جلب الرزق من ناحية أخرى، لانّ المنفعة الحدية للحياة تصبح صفراً عندما يكون دخل الكفاف صفراً، ولذلك فإنّ الحلول الثنائية (0 أو 1) لا يُمكن أن تُقبل، وكلاهما بمفرده فاقد للأداء لا محاله. ذلك ما أشرنا اليه في العديد من النداءات السّابقة والتي أقرّها من قبلُ جلُّ العلماء منذ بداية الجائحة (مثلاً، الاقتصادي المرمُوق ريتشارد بالدْوين في كتابيْه المتتالييْن عام 2020)، وعملتْ به البُلدان التي تَبرُز اليوم في وضع أفضل بكثير ممّا نحن عليه.

(2) صحيحٌ، إنّ إدارة الازمة المزدوجة، الصحية-الاقتصادية، كانت مُعوَّقةً باعتبار تغليب الجانب السياسوي على جوهرها وفهمها والتأقلم معها أثناء تطوّرها، وأنّ الازمة تخلق مشاكل إضافية يصعب حلّها كلّما مضى الزمن، وأنّ في الوقت الحالي تعاظمت تداعياتُها واستعصى تعدّيها، إذْ لم يتمّ تكوينُ خليّة أزمة حقيقية منذ البداية تُدير المستقبل وتستبق التطورات وتبني السيناريوهات المزدوجة (الاقتصادية والصّحية) وتُعدّلها، لا تلتفت الى الماضي حتى ولو كان البارحة (فيها على الأقل، متخصّص عالي المستوى في الطرق الكمية للأوبئة وعلم الفيروسات وتفرعاته، وفيها متخصّص عالي المستوى في علم الإحصاء، وفيها متخصص عالي المستوى في الاقتصاد الكُلي القياسي، وفيها متخصص عالي المستوى في الاتصال والتحشيد والتعبئة، وفيها متخصص عالي المستوى في علم الاجتماع التطبيقي وعلم النفس، وفيها متخصّص عالي المستوى في الاقتصاد القطاعي والسّياسات الصناعية في الاقتصادات المفتوحة، وفيها متخصص عالي المستوى في البرمجيات الحاسوبية والبيغ-داتا).

تستأنس خلية الازمة بآراء العلماء والجامعيين على غرار التجربة الألمانية، وترتبط عُضويًّا بوزارة الصّحة التي تُمركِز المعطيات وتطوّر قاعدة البيانات وتُصيغ الاستراتيجيات وتنسّق مع الجهات المعنية الأخرى وتجعل حقيقةً من الأزمة فرصةً كما ورد في التجارب التي عشناها، خارج البلد بطبيعة الحال... صحيحٌ، كل هذا لم يتمّ، ولذلك أحدث فجوةً كانت أهمّ تداعياتها التكلفة الإنسانية والاقتصادية العالية والضغط على المنظومة الصحية؛ فجوةٌ تمّ ملؤها بقِصصٍ خارج الموضوع وتنامي التمحور حول المصالح الجزئية لمؤسسات الدّولة (البنك المركزي من جهة، ووزارة المالية من جهة أخرى، ورئاسة الجمهورية التي لم تفرّط في أن تكون جزءً من التفتت المؤسّسي) الى غاية أنّ كلاّ منها التفتت حول أهدافها الضيقة، بالرّغم من أنّ الحكومة أنداك كان لها تفويضٌ من البرلمان لم تُحكم استعماله ولها كذلك التفاف من جل الاطياف السياسية التي بقيت تنتظر لحظة الكارثة، فضلا عن المعارك الخاطئة التي أثّثت الفضاء العام وانخرط فيها كلّ فاقد لقدرات التجريد.

(3) الآن، وقد توفّرت اللقاحات، لكن تدهورت المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، وجب :

(أ) إذا كان لا بدّ من الحجر الصحي المحتشم، فعلى الأقل، الحجر الصحي الترتيبي الذي يكون ذا صرامة أكثر كلما أشارت البيانات الصحية الى ارتفاع منسوب العدوى.

(ب) ارغام كل مواطن من تنزيل تطبيقه في هاتفه الجوال تتضمّن معطياته الصحية المُحدّثة وتُرغمه على الاستظهار بها كلما أراد الدخول الى أي مؤسسة أو مساحة كبرى أو غيرها،

(ج) تشغيل العُمّال وفق ثلاثة فرق في اليوم الواحد مع الزيادة في عدد وسائل النقل العام ونشر قوات الامن تراقب احترام التباعد وارتداء الكمامات وتطبيق خطايا مالية في صورة عدم الامتثال.

(د) تمكين أصحاب المطاعم والمقاهي والخدمات الشخصية والتجميلية من شراء مستحقاتهم عن بُعد أو للحمل.

(ه) الاتيان بخمسة ملايين جُرعة لحاق على الأقل، الآن وليس غدا، مع تشغيل وتجهيز كل المستوصفات في البلاد بالحد الأدنى من المعدّات للحاق، مع حملة تحسيسية واسعة النطاق.

(و) دعم المستشفيات بالحد الأدنى من المعدات الطبية في سياق اعتبار أن البلاد في حالة "حرب شاملة" يُخوَّن كلُّ من لا ينخرط فيها، مهما كان موقعُه.

(ز) اعداد فِرقٍ حُكومية ومن العُلماء، تتصل رأسا بالنظراء في الدّول الصديقة، وتكون محمّلة بملفاتٍ جاهزة تتضمّن مشاريع شراكات متعددة القطاعات، حيث التعاون الطبي والدوائي الفوري عنصر قارٌّ.

(ح) اعداد قاعدة بيانات ثلاثية الابعاد (القطاعي، الجهوي، الديموغرافي) ينمّ من خلال استهداف الإجراءات الاقتصادية والصحية بصفة آنية.

(ط) اعداد قانون ميزانية تكميلي،

(1) يُخفّض من حجم الميزانية ومن الاعتمادات التي لنْ تُصرف بالضرورة فيما تبقى من العام الجبائي، و

(2) يدفع المؤسّسات الكبرى ذات النتائج الصافية الإيجابية الى أن تدفع بصفة استباقية الاداءات القادمة، و

(3) يفرض على الشركات غير دافعة الضرائب أو المتهرّبة أو الفاسدة على القيام بواجبها في دفع الضرائب، و

(4) تحديث الإجراءات المتخذة من البنك المركزي في مارس الماضي، باستثناء الموظفين والذين لم يفقدوا عملهم، وتمديدها الى آخر السنة، مع اصطحابها بقرارات حرفية وواضحة وجلية، تمنع البنوك من استخلاص فوائد إضافية، و

(5) تجهيز قدر الإمكان المؤسسات المدرجة في النظام الثابت (forfaitaire) بآلات محاسبة، تُشترى فورا إن أمكن وتكون مرتبطة بقاعدة بيانات وزارة المالية، و(6) احداث مناقصة عامة بسندات طويلة الاجل للتونسيين في الداخل والخارج مع نسب محفّزة، …

هذا، واضافة الى هذه الإجراءات المستعجلة، وجب على فرق أخرى عاملة على الجانب الاستراتيجي متوسط المدى تجعل من الازمة فرصةً، قد أعود اليها في نص آخر…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات