تجديد الرؤية للوحي وللإيمان…

جعل القرآن موضوع نقاش وجدل في هذا القرن الواحد والعشرين أمر حسن وجميل مهما تعارضت الآراء حوله. فهذا يعيد الانتباه إليه ويخدم قضيته بطريقة أو بأخرى. وقد يقصد أحدهم إثارة قضايا حول القرآن من أجل التشكيك في مصدره الإلهي، ولكن ما يحصل هو غير ما ينتظره من ذلك. ما يحصل هو مزيد التمسك به من طرف المؤمنين. وما هو أكثر فائدة من مجرد التمسك بالدافع العقائدي هو إثراء الرصيد المعرفي والعلمي بنظريات ومناهج ونتائج دراسات وأبحاث علمية تجدد الرؤية للإيمان انطلاقا من النظر مجددا في معنى ألوهية مصدر الوحي. القرآن الكريم نفسه لم يرفض مبدأ التشكيك فيه وانخرط في حوار مع المشككين شاهرا أمامهم التحدي تلوى الآخر. فهو لم يواجه ذلك التشكيك بالرد الحاسم كما واجه مثلا واقعة نسبة أولاد للخالق.

بل منح المشككين فرصا للرد على تحدي القرآن بأن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، ودعاهم إلى التثبت (في سعة من أوقاتهم) في ما إذا كان يوجد في القرآن تناقضات أم لا. المقصود بهذا الحديث هو أن الكلام في ألوهية القرآن ليس مرفوضا من حيث المبدإ بل هو مطلوب وضروري لأنه المدخل الصحيح إلى الإيمان. فالرسول(ص) قد دعا الناس للإيمان به مقدما لهم هذا "العرض القرآني" وهوعرض في فلسفة الخلق والوجود والقيم والاجتماع البشري مصاغ بأساليب متنوعة لمخاطبة طبقات الوعي الإنساني المختلفة:العقل والخيال والشعور والروح.

وإنما آمن من آمن من المسلمين الأوائل بفعل تسليمهم بتفوق القرآن المطلق على كل أشكال البيان في عصرهم.

ما يقلق في سياق طرح موضوع القرآن طرحا جذريا ليس مسعى نزع القداسة عنه، لأن ما هو مقدس لن تغير الأقوال المدنسة منزلته الحقيقية أبدا. فقد كفر كثير من البشر بخالقهم وسبوا الله جهرا ولكن الله يظل هو الله عليا فوق العالمين. ما يقلق هو إصرار المؤمنين على تكرار نفس الحجج القديمة على ألوهية النص. فالإعجاز اللغوي مثلا لم يعد اليوم حجة حية على مصدره الإلهي. كان ذلك حقا صحيحا لما نزل القرآن في العرب الأقحاح وتحدى فطاحلة العربية، أما اليوم فإن أغلب القارئين له ليس بمقدورهم التذوق المباشر لدلائل إعجازه ولطائفه البلاغية لضعف الملكة لديهم. فكيف يتسنى ذلك لمن لم تعد الفصحى لغتهم الأم اليومية وتكوينهم اللغوي خليط من عربية متوسطة أو ضعيفة وعربية دارجة وفرنسية وانجليزية؟ بل إن ذلك ممتنع عن كل خلق الله الذين لا يتكلمون العربية.

إن صيغة الإيمان المشتركة تقرر أن الله قد قرر في يوم من الأيام أن يشرع في إرسال آيات وسور لعبد من عباده البشر عبر عبد من عباده الملائكة من أجل تذكير البشر وهدايتهم ومزيد إحكام تنظيم حياتهم وفق الناموس الإلهي. وأرسل له على مدى ثلاثة وعشرين سنة ما يزيد عن ستة آلاف ومئتي آية. ثم سكت الوحي وإلى الأبد.

هذه الصيغة في تمثل حقيقة الوحي أجدها ساذجة وتمثل عائقا معرفيا أمام فهم هذه الحقيقة. لأنها مبنية على نموذج تكنولوجي مبسط يشبه نموذج شانون Shannon(1949): مرسل- قناة- مرسَل إليه. وهي بنية أركيتيبية نموذجية حدسية حسية.

لا يخرج الوحي عن قوانين الوجود، وهو أمر تفطن إليه بنباهة الفيلسوف الهندي محمد إقبال وذكره في كتابه"تجديد التفكير الديني في الإسلام"، حيث اعتبر الوحي "صفة من صفات الوجود". يقول إقبال: «إنّ الطريقة الّتي استعمل بها القرآن لفظ "الوحي" تبيّن أنّه يعتبر الوحي صفة عامّة من صفات الوجود، وإن كانت حقيقته وطبيعته تختلفان باختلاف مراحل التّدرّج و التّطوّر في الوجود. فالنّبات الّذي يزكو طليقا في الفضاء، والحيوان الذي ينشئ له تطوّره عضوا جديدا ليمّكنه من التّكيّف مع بيئة جديدة، والإنسان المستلهم للنّور من أعماق الوجود، كلّ أولئك أحوال للوحي تختلف في طبيعتها وفقا لحاجات نوعه الذي ينتمي إليه. وفي طفولة البشرية تتطوّر القوّة الرّوحانية إلى ما أسمّيه الوعي النّبوي، الّذي هو وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي والاختيار الشّخصي، وذلك لتزويد النّاس بأحكام وأساليب للعمل أعدّت من قبل»(إقبال، 1955، ص.143).

ليس هنالك في الفلسفة التوحيدية الحق، حسب فهمي لها، موجودات وظواهر مقدسة وأخرى مدنسة. وإذا ما اعتبرنا القرآن كلاما مقدسا لأنه صادر عن الله، فإن كل الخلق صادر عن الله وهو بالتالي مقدس أيضا. فخلق الله غير متفاوت من حيث قيمته الوجودية، بل هو كل منتظم وفق تصميم إلهي فائق الدقة والتكامل. وإلا لنسبنا لله أعمالا بعضها أفضل من بعض، وهذا لا يجوز في حقه. لكن التعامل الوظيفي مع ما خلق الله أمر آخر، وكله مضبوط بقيمة القيم التي هي الأمانة. ثروات الطبيعة أمانة، وكل مكونات المنظومة الحيوية أمانة، والبشر أمانة لبعضهم البعض، والشعب أمانة، والدولة أمانة...الخ.

إذا نظرنا إلى الوحي بما هو صفة من صفات الوجود فسيساعدنا هذا كثيرا على فهم العلاقة بين ما هو "إلهي" وما هو "بشري" في الوحي. أضع كل من عبارة إلهي وعبارة بشري بين معقفين، لأنه لا يوجد ما يمكن أن يخرج عما هو إلهي، أي لا يوجد في هذا الوجود ما هو خارج عن القوانين التي وضعها الله له. اللغة العربية، لغة بشرية، وبها تشكلت آيات القرآن، ولكن ب"لسان عربي مبين". الأمثلة التي ضربت في القرآن لم تخرج عن المعيش التاريخي واليومي البشري. الثمار التي ذكرت فيه وأسماء الحيوانات كلها مما وجد في المحيط الحيوي للنبي محمد(ص). ليس فيه مثل ذكر للإجاص والأناناس والموز والكيوي والمانڨا، ولكن قال "فاكهة وأبّا". وهي صيغة مفتوحة على كل أنواع الفاكهة التي خلقها الله عز وجل.

تعرض القرآن الكريم لعدد من الحوادث والأحداث التي جرت في عهد الرسول(ص) وبعضها أحداث يومية عادية (سورة المجادلة، الترخيص للرسول في الزواج من زوجة من رباه بعد تطليقها له، ما حصل بينه وبين نسائه...الخ). هذه الأحداث ليست أحداثا خارقة وكان من الممكن ألا تحدث زمن نزول الوحي لو تقدمت البعثة بسنوات قليلة أو تقدمت بسنوات قليلة، أي كان من الممكن ألا تكون من بين ما تضمنه القرآن الكريم. صحيح أنها كانت منطلقا لتشريعات جديدة أو لتقديم دروس في التربية الإيمانية أو الاجتماعية، ولكن كان بالإمكان أن تشرّع تلك التشريعات أو بعضها انطلاقا من حوادث أخرى.

وكان من الممكن أن تظهر تشريعات جزئية أخرى انطلاقا من وضعيات حدثت لاحقا لو أن الوحي تأخر أو استمر لبضع سنوات أخرى. ومعلوم لدى علماء أصول الفقه أن "الأحكام متناهية والقضايا غير متناهية". لكن الكليات هي الآن موجودة في النص. وإن آية واحدة مثل قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل: 90) لآية جامعة اشتملت على ما لا يقل عن ثلاثة مقاصد تشريعية عليا من بين المقاصد الخمسة التي ذكرها الشاطبي وابن عاشور، وهذه الثلاثة هي: حفظ النفس والمال والعرض. ولو أخذنا بعين الاعتبار ذكر الآية لاسم الذات العلية مصدرا للتشريع لأضفنا مقصد حفظ الدين، ولو توقفنا عند نهاية الآية الداعية للتذكر أي لاستخدام النظر العقلي العملي، لأضفنا أيضا مقصد حفظ العقل، فتكون هذه الآية الواحدة مشتملة على مقاصد الشريعة الخمسة، فضلا عن مقصد العدل الذي أضافه ابن عاشور في كتابه"أصول النظام الاجتماعي في الإسلام".

هذه الملاحظة التي دونتها في الفقرة الأخيرة لا تمس في شيء ألوهية المصدر القرآني، ولكنها تقع ضمن تصور حي لمعنى الألوهية. تصور لإله حي نشاهد آثار وجوده وفعله في التاريخ، إله"كل يوم هو في شأن"(الرحمن: 29) وليس إله أرسطو الذي دفع العالم إلى الحركة وجلس يتفرج عليه ساكنا على مدى مليارات السنين.

يمكنني مزيد تفريع القول وتعميقه في هذا الموضوع الفائق التعقيد، ولكني أكتفي في هذا الفضاء بهذا القدر، وحسبي أن أنبه مع هشام جعيط إلى وجوب تجديد الرؤية للإيمان ومن داخل الإيمان نفسه وليس من خارجه ولا على حسابه حتى نتخلص أكثر فأكثر من غفلتنا وسذاجتنا المتوارثة.

Commentaires - تعليقات
شكري السلطاني
04/09/2021 13:46
خطوة نحو مسار صحيح ليقظة أمة الوحي والرسالة