الرحى

Photo

كانت تبدأ الرحي بعد حلول الظلام، بعد أن تكون قد "عمرت البراد" و "أشعلت" الكانون، و "علفت" البقرة والحمار، واطمأنت أن الدجاجات لزمت القن والارانب لزمت جحورها، وأن كل شيء في مكانه، فأضع رأسي على فخذها، وتنخرط هي في بكاء حزين يقطع نياط القلب: تبكي كل أحبتها الذين فقدتهم تباعا، أو تبكي ظلم ذوي القربى، أو تبكي حظها العاثر الذي جعلها تعيش وحيدة بعيدة عن الوالد المهاجر إلى ليبيا ليتركها "هي الراجل وهي المرا"! وبدون أي فاصل زمني تمر إلى ترديد الأغاني الكافية الشجية بصوتها الرخيم الحنون، وكانت تطلب مني أن "نشد عليها الغناية" أي أن أكرر أنا المقطع الثابت في الأغنية وتكتفي هي بترديد المقاطع الأخرى، وكنت أجد متعة لا تصدق وأنا أشاركها الغناء،و كانت تجازيني على ذلك بقبلة على جبيني وبكأس شاي منعنع، بعد ذلك تروي لي للمرة الألف "خرِّافة" علي ولد السلطان ورأس الغول وقد كانت رحمها الله تتصرف في أحداث "الخرّافة" كما يحلو لها، مما يجعلها متجددة ومفتوحة على كل ما يسمح به خيالها الخصب من مفاجآت! حتى أنها كانت تتصرف في جرعة "الرعب" المرتبطة بالغول حسب مزاجها وحسب انضباطي وسلوكي طيلة اليوم، فإذا كانت غاضبة مني اعتمدت عبارات مثل "مشمش الغول ضحيته، وشفط دماغها" مما يقتلني رعبا ويجمد الدم في عروقي، وإذا كانت راضية عني يصبح الغول كائنا رقيقا بقدرة قادر حتى أنه قد يساعد ضحاياه على العودة سالمين من حيث أتوأ !!

وبعد أن يبح صوتها من الغناء والبكاء والحكي تصمت لبعض الوقت ثم تعرض على مسامعي بكل جدية الدنيا بعض القضايا التي تشغل بالها متسائلة بتشنج واضح: شوف راك إنت راجل الدار، بالله موش عندي الحق؟ طبعا لم تكن تنتظر جوابي بل تمر إلى فصل جديد من البكاء أو الغناء، وكان رأسي المسكين خاضعا لإيقاع حركة الرحى الدائرية فيهتز ويقع ويرتفع بحسب عنف الحركة أو هدوئها! ومع ذلك سرعان ما يغلبني النوم فأسيقظ صباحا وأنا في فراشي..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات