
فوبيا اليسار: هي العبارة الجديدة التي تروج هذه الأيّام في الردّ على الاتّهامات التي وجّهها رئيس الجمهوريّة إلى ما سمّاه " اليسار المتطرّف " وهي أيضا العبارة التي تروج على إثر ما شاع عن حصول ابنة زعيم أحد قيادات الجبهة على سيّارة من الإمارات العربيّة المتّحدة.. خبر تلقّفه البعض للشّماتة وتلقّفه آخرون للعب دور الضحيّة فبادروا إلى عبارات من قبيل: فوبيا الجبهة.. فوبيا حمّة.. فوبيا اليسار.. حفاظا لماء الوجه..
" فوبيا اليسار" ملاذ لمواجهة المآزق التي تردّى فيها يسار كان من أكبر المساهمين في وصول الرّئيس الحالي إلى السّلطة بإعلان المساندة الصّريحة له أو بدفع القواعد إليها ضمنيّا بتبشيع الخصم والإيهام أنّ الرّئيس الحالي هو المنقذ من الغول الإسلامي.
المأزق الآن في أنّ اليسار وجد نفسه خارج اللّعبة رغم كلّ ما فعله وما قام به من " تنازلات " وانتقل من موقع الحليف إلى موقع الغريم أو الخصم وها هو يلجأ إلى الإيهام بفوبيا اليسار فيتقمّص دور الضحيّة بعد أن كان جزء منه سابقا " سوطا " للجلّاد " عبر المساهمة في الإقصاء والتشفّي وسياسة " تجفيف المنابع ".
ولكن هل توجد حقّا هذه الفوبيا من اليسار؟ ومن صنعها أو من يحاول أن يصنعها؟
ما نعلمه أنّ " فوبيا الإسلام " كان صناعة غربيّة تجنّدت لها وسائل الإعلام وبعض مفكّري المركزيّة الغربيّة ومستشرقيها الذّين جعلوا من المسلمين قوما متوحّشين ومن الإسلام دينا دمويّا عنيفا في إطار ثقافة استعدائيّة ومطامع استعماريّة وتبنّى كثير من نخبتنا الحداثيّة واليساريّة هذا الموقف من الإسلام فتملّكتهم الفوبيا و " كانوا ملوكا أكثر من الملوك ".
أمّا " فوبيا اليسار " التي شرع البعض في استعمالها فهي صناعة محليّة تريد أن توهم أنّ هناك استعداء لليسار. ومن المفارقة أنّ من ساهم في التّرويج لفوبيا الأسلاميين عبر التّخويف من المصير " الظّلامي " الذّي ينتظر البلاد في صورة انفرادهم بالحكم هم أنفسهم من يستنبطون اليوم عبارة " فوبيا اليسار " في قلب للأدوار غايته اتّهام الخصم المركّب اليوم: النّهضة والنّداء بمحاولة " استئصال " اليسار والتّحالف ضدّه لما يمثّله من خطر على البلاد تجلّى في أحداث العنف في الاحتجاجات الأخيرة.
" فوبيا اليسار " ليست سوى سلاحا من أسلحة معركة لا تزال كلاميّة ولا تزال تكتفي بتبادل التّهم والشّتائم وتفجير الأحقاد الكامنة وممارسة المغالطات والتّزييف من أجل كسب التّعاطف ومحاولات الإنقاذ بعد أن وجد " اليسار " نفسه ينقلب من الولاء إلى العداء وبعد أن وجد نفسه في مواجهة السّلطة وحيدا في العراء.
" فوبيا " اليسار ساهمت بعض وجوه اليسار في صنعها بصنع المعارك الوهميّة وأهمّها المعارك الهوويّة التّي تستفزّ الوجدان الدّينيّ وتشعر التّونسي بغربته عن يسار حاد عن نضاله الاجتماعي وصار مجرّد محرّك لمعارك جانبيّة تلتهب بسرعة ويرتفع دخانها لتغطّي على المعارك العميقة والشّرسة داخل المجتمع: معارك الفساد وتفعيل الدّستور والإصلاح الجبائي ومقاومة التّهريب والتهرّب الضّريبي..
لقد خيّب اليسار انتظارات كثيرة في سعيه إلى السّلطة ولم تكن مواقفه اللّامبدئيّة تسمح له أن يمتدّ عميقا في صلب المجتمع وأدّى خوض المعارك الخاطئة إلى مزيد عزلة اليسار الذّي يحاول الآن أن يتموقع في موقع الضحيّة الذّي يتعرّض إلى الإقصاء وصنع الخوف المرضيّ منه.
ما يغمض عينيه عنه هذا " اليسار " اليوم هو مدى حاجة الوطن اليوم إلى يسار اجتماعي حقيقيّ يرتفع عن هذا " المكر " ويتحرّر من أمراضه المستعصية وخاصّة أحقاده التّاريخيّة ليكون قادرا على أن يفعل إيجابيّا. وتبدو بعض الأصوات المتفرّدة المتحرّرة من سلطة الأصنام قادرة على إنقاذ يسار يحتاجه الوطن.. يسار جديد يعود إلى وعيه وإلى دوره وإلى عقله الذّي اغتيل مع كلّ اغتيال.
في الأثناء.. ليس هناك فوبيا من اليسار سوى تلك التي صنعها اليسار نفسه..