
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا "كما قال الشاعر أحمد شوقي ,فهل بقيت أخلاق في المجتمع وهل بقي الحياء مع الأدب ؟
إذا كانت الأخلاق الحميدة والقيّم السليمة هي دعائم لرقيّ الأمم فإنّ إنعدام الأخلاق والقيّم السقيمة دمارا واضمحلالا وإندثارا للوطن . تتالى الأعوام وتتسارع الأيّام حاملة المآسي والمصائب والفواجع وشتّى الصعوبات ولا بصيص لنور أو أمل لمستقبل واعد ناصع ضامنا لحياة هادئة هانئة للأجيال اللاحقة, وتلك مأساة حقيقية يتحسّسها كل ذي لبّ وعقل حصيف من الأحداث والمتغيّرات الكاشفة عن خبايا النّفوس ومعادن البشر .
إذا كان الجيل السّابق يحترم ولم تصب أخلاقه في مقتل فإن الجيل اللاحق لا يهتمّ ولا يبالي بالقيّم , فهل هذا كله نتاج العامل الإجتماعي وإختلاف في طبيعة المجتمع ؟ كيف سارت الأخلاق والقيّم في تناسب عكسي مع تطوّر وتغيّر الحياة ؟
جراثيم فاتكة بالأخلاق وأمراض مدمّرة للقيّم السليمة إنتشر وبائها وأصابت العدوى معظم البشر لغياب الضمير والضوابط الملزمة للفرد حدوده وقلّ من يقف عند حقّه , لقد غابت المناعة والوقاية التي تحمي الناشئة والشباب من الإندفاع والتهوّر والمقامرة والإندماج مع كل جديد جاذب لشهوات النفس ومغذّي للهوى .
كل الآفات والمفاسد هي أمراض وعلل قد تنقل إلى الحياة الإجتماعية وتتسلل إلى ثقافة المجتمع وتقاليده ويتّسع نطاقها حتّى تدخل في جميع المجالات والميادين من فن وأدب وإعلام وتعليم ,وهذا ما يؤثر في زعزعة أركان الحياة الإجتماعيّة.
1-الأعراض : أمّة تستهلك الكلمات والعبارات وتنبسط لها نفوسها ولا ترتقي إلى مجال العمل والتّطبيق والإخلاص والتفاني والإبداع هي أمة إلى وهن وبوار وفناء , إنها مأساة واقع الوهم والكسل والفشل . فهل أنّ وظائفنا السيكولوجيّة سليمة أو هو تأثير المنهج الخفيّ الموجّه للسلوك المؤثّر في النفوس كما قيل "نعتقد أنّه يحكمنا وعينا وضميرنا ولكن في الواقع فإنّ لاوعينا يترصّد يسحب السّلسة ويتحكّم في مصيرنا "؟ إنّ الظروف النفسيّة والإجتماعيّة تحكم طبيعة النّاس وأمزجتهم فالأخلاق سببا لتلك الظروف.
أمراض نفسية إخترقت نسيج المجتمع وأصابت خلاياه فلقد فقد الإنسان ذاته وكل مشاعر الأنا العليا ليصبح بلا قيّم ولا خلق لعدم التكيّف الإجتماعي وطفت أعمالا مخالفة للطبيعة البشريّة كالإنحرافات الجنسيّة وإنتشرت فما نسمعه في الشّارع وقاحة وشرّ وريق شيطان. بعض من الشباب يقلب علينا منضدة القيّم الدينيّة ويدوس القيّم الساميّة ولا يتوانى في إتباع هواه وغريزته وما المخدرات وإتيان شتّى الموبقات إلا نتيجة لما يعتريه من شذوذ ذهني وشذوذ في ملكة الإرادة تؤدي إلى إضطراب الشخصيّة وإلى الإنحراف والعقوق والإغتصاب والإجرام .
إنّ تسلّط الشّهوة على العاطفة والإنفعال على الحكمة والتهوّر على الرصانة والمقامرة على المغامرة طوارق مانعة للضمير سالبة للأخلاق.
2-الأسباب" : إن الأكوان ظاهرها غرّة وباطنها عبرة ,النّفس تنظر إلى ظاهر غرّتها والقلب ينظر إلى باطن عبرتها ". فهل من معتبر وهل من مزدجر ؟
أ_ جانب موضوعي : إنه زمن الحسّ والغبش عصر تدنّي الأخلاق وضمور المبادئ والمثل في النّفوس الضعيفة بطغيان المادّة وسيادة القيّم السقيمة . لقد حدث تغيير في العالم في القيّم والأخلاقيات والأفكار ادّى إلى تغيير في الجيل الذي يعيش فيه بصورة غير طبيعيّة ,حدث تغيير في المفهوم الذّاتي كما حدث تغيير في الجانب الإجتماعي لأنّ الأخلاق قد تغيّرت بشكل كبير فكل شيء قد تغيّر .
وبما أنّ امّة العرب تستهلك ولا تنتج مغلوبة غير غالبة تابعة غير متبوعة فلقد فرض الغرب نسقه وذوقه وفكره ونظرته وفنونه هذا الغرب المنغمس كليّا في المادّة المتقدّم تكنولوجيّا المسرع حضاريّا المتهافت اخلاقيا قد طبع حياتنا غيّر عاداتنا وتقاليدنا خدش معانينا , لقد أغفل دور العامل الروحي في حركة التاريخ وركّز فاعلية الإنسان في العالم المادّي فحسب ,لقد اصبحت مصيبتنا في شبابنا وجيل اليوم الذّي لم يجد من يربّيه ومن يسمعه ويداريه فأتجه للمخدرات والإنحراف والتمرّد , إذ المريض المهتاج الأعصاب سهل الإنقياد وسهل الوقوع تحت أي نوع من أنواع النفوذ ,فالبدع والكلمات الجوفاء والشعارات الفارغة والموضة وشتّى الفنون تجد رصيدها دائما لدى المخدوعين الذين أغشاهم وهج الزّيف وسكن عقولهم الوهم.
ب _ جانب ذاتي : إنّ الفراغ والبطالة والحالة الإقتصاديّة المزرية والإغتراب بيئة جاذبة للمفاسد وسيء الأخلاق وأرض خصبة لإنتاج جيلا معدوم الإرادة والضمير حيث الصفات اللئيمة والمصالح والمنافع الذاتية على حساب المجتمع لإرضاء شهوة أو عاطفة وتحقيق ربح أو منفعة وعندما تتحوّل الصفة السيئة إلى شجرة عملاقة يصبح المجتمع غابة للذئاب.
عناصر وقيّم سلبيّة جاءت نتيجة عدم إستشراف عقائدي لمشاكل الإنسان والعالم وعدم دراسة مستفيضة لأسباب وأصل الداء والعلل وإن كانت هناك حلول فهي غير مدروسة نتيجة ردود افعال وإنفعالات ومقاربات خاطئة لا تنطلق من فهم شامل ورؤية عميقة لقصور في الدراسة والتحليل إذ هي مقيّدة بالبيئة والمكان والزمان. عجز عن تهيئة مناخ إبداعي وتهوّر في التربيّة والتحكّم في رغبات الشباب وعدم فهمهم وإستيعابهم ومساعدتهم لرفع تحدّيات الحاضر وتخطّي عقبات عصرهم , فأصحاب مبدأ الفشل هم من يتبنون مناهج مثبّطة ومحبطة للآمال لأنهم يفتقرون الطاقة الإيجابية والروح البنّاءة فينتج إنتشار لتعاليم فاسدة عوضا عن التربية الصحيحة.
إنّ المحاكاة والتقليد الأعمى وعدم الإستقلالية والإمعيّة هي أسباب الذوبان ومسخ الهويّة وكلها نتاج الفراغ الفكري والخواء الرّوحي الذي يستدعي الأفكار السلبيّة والقناعات الخاطئة والسلوكيات المنحرفة.
3-الوقاية : كيف نقي شبابنا الذي اصبح عجينة بخور الخواء الرّوحي والفراغ الفكري وتوابل الشّارع والمقاهي وقيد الزمان وضغط المكان ؟ لا بد من كسر الأساليب النمطيّة التي أوصلت إلى هذه الحالات والمصائب وأن نعكس ونمارس قيّمنا الجوهريّة.
يعتمد نجاح المشاريع والبرامج على بناء بيئة معرفية ومحاضن تربوية ومنح الشباب جرعة كافية من المعلومات والثقافة والوعي المطابق لطبيعة المرحلة لتغذيّة العقول وصقل النفوس وشحذ الأرواح ولنرفع عن كاهلهم عبء الفاقة والمشقّة ونجعلهم يشعرون بأنّ مصالحهم مطابقة لمصالح المجتمع ليصبحوا مواطنين صالحين ويتركوا "الإفساد والإجرام . "
فالمجتمع الناجح هو الذي يكثر فيه من ينفع نفسه بعمله وينفع المجتمع ايضا بمقدار كبير او صغير فهؤلاء الأفراد يزيدون بأعمالهم المتنوّعة ثروته ورفاهيته وكرامته " والمجتمع الفاسد "لا يستطيع أن يوفّق بين مصلحته ومصلحة الكثيرين من أبنائه وبذا يكثر فيه المجرمون والمجانين –والشّحاذين- وأولوا اللؤم والإعتداء والإجرام ".
أليست المصلحة الخاصة هي اساس الطبيعة البشريّة فإذا تناقضت مع المصلحة العامّة كانت وبالا على المجتمع ومفتاح لكل مفسدة وشرّ ؟ لا مناص إذن من الإهتمام بالمصلحة الخاصّة بتقريب المصلحة العامّة منها . من أراد الإصلاح وصلاح المجتمع فليسعى لتغيير ظروف الناس لكي يساهم في تغيير اخلاقهم بتنقيتهم من عقدهم النفسيّة وتحليتهم بالقيّم الإجتماعيّة السليمة.
للوقاية بعدين متلازمين:
- بعد مادي :تغيير ظروف عيش الناس والإرتقاء بها إلى مصاف الإنسانية حيث الكرامة والإستقلاليّة والحريّة . معالجة تلامس العقل الباطن فتغيّر المقاييس اللاشعوريّة وتتجاوز العقد فتتحسن الأخلاق نتيجة تحسّن الظروف الإجتماعيّة.
–بعد معنوي : بالمعالجة التربويّة ونشر المبادئ وتبديل القيّم الفكريّة السقيمة بأخرى سليمة وتغيير المفاهيم "إن فقدان العقيدة الأصيلة التي تبعث اليقين في كينونة الإنسان وتحرّك فكره وتفتح وجدانه على قضايا امته ومصيره قد اصاب الشباب وجيل اليوم بالإرهاق الفكري والسأم النّفسي والفراغ الروحي".
لا بدّ لبصماتنا الشخصيّة وصدق توجهّنا وعمق العقل التحليلي أن يصنع إيقاعا جديدا آليته الخاصة الروح العمليّة للتقدم بالإنسان إلى حياة سعيدة منسجمة مع نواميس الكون مشرقة بالقيّم السليمة والمثل النبيلة والمبادئ الساميّة حيث العدالة الإجتماعية بها تصان كرامة الإنسان وتحفظ حقوقه فلا ظلم ولا حيف و لا نفاق إجتماعي.