
فمن هيمنة حضارة الآشوريين، وهيمنة حضارة الفراعنة ومن ثم حضارة اليونان والرومان والفرس إلى هيمنة حضارة العرب المسلمين والمسلمين العثمانيين، مروراً بهيمنة الأمبراطوريتين الأنجليزية والفرنسية وانتهاءً بهيمنة الدولتين الأكبر المتنافستين على اقتسام العالم الدولة السوفيتية والولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم استفراد أميركا بالعالم بعد انهيار الأمبراطورية الحمراء السوفيتية.
والهيمنة لغوياً تعني إحكام السيطرة والسطوة على. واصطلاحيا هيمنة الدول القوية والكبيرة على الدول الصغيرة، أو هيمنة ثقافة ما على ثقافات أخرى وهكذا، أو هيمنة حزب ما على الحياة السياسي.
وحديثي يدور حول الهيمنة بالمعنى الدولي العالمي للكلمة، وبالتالي بالمعنى الذي أشرت إليه في السطور السابقة.
ولا شك بأن لا هيمنة بلا قوة، فالعنصر الحاكم في الهيمنة هو امتلاك إمبراطورية ما أو دولة عناصر قوة متنوعة من عناصر القوة العسكرية إلى عناصر القوة الثقافية مروراً بعناصر القوة الاقتصادية.
لكن المتتبع لأشكال الهيمنة العالمية لحضارة من الحضارات سيجد ان وراء نزعة الهيمنة ليست القوة المادية فحسب الفكرة القابلة للانتشار التي لا تنفصل عن القوة بالمعنى الذي أشرت إليه. فقد حمل التوسع الآشوري والفرعونية معه التصورات المختلفة حول آلهاتهم، وحاول اليوناني نشر فهمه لفكرة الأحرار والعبيد، والروماني طرح فكرة القانون والعربي الإسلامي حمل معه فكرة المساواة بين البشر، والأوروبي راح ينشر فكرة مركزية الإنسان وحريته والسوفيتي طرح أمام الإنسانية فكرة الشيوعية، والأميركي ورث الفردية عن أسلافه الأوروبيين وراح يعلنها مبدءاً عاماً في إهاب برجماتي.
والحق إن دور الأفكار وقوتها في الهيمنة لا ينفصل عن دور القوة العسكرية والاقتصادية، إذاً لا يكفي أن تتوافر الدولة على قوة عسكرية فقط لتكون قادرة على الهيمنة.
غير اننا اليوم أمام ظاهرة عالمية جديدة ووليدة لا نستطيع أن نحدد مآلاتها ألا وهي تعدد أقطاب العالم من جهة وعدم احتكار «الإمبراطوريات» الكبرى للقوة الاقتصادية، بل وهناك حركة عالمية تشي بتوزيع القوة بين عدد كبير من الدول، ولم تعد فيه القوة العسكرية هي العامل الحاسم في فرصة السيطرة.
فالصين واليابان والهند ودوّل أوربا وأميركا وكوريا الجنوبية والبرازيل تتوزع انتاج الثروة وأسواق العالم مع وجود قوة عسكرية لدى بعضها وفقدانها لدى بعضها الآخر.
فالعلم اليوم لم يعد حكراً على دولة دون غيرها، وبالتالي لم يعد احتكار العلم وسيلة هيمنة، والقوة العسكرية لم تعد وسيلة فرض سيطرة كما هو حال مرحلة الاستعمار التقليدي وعقابيله، والقوة الاقتصادية تتنامى لدى بلدان ولو كانت صغيرة الحجم، وعدد السكان ليس مصدر قوة الآن بل صار عبئاً على الدولة ذاتها. فألمانيا بعدد سكانها القليل نسبيا والذي لا يتجاوز الثمانين مليوناً إلا قليلاً تتوافر على قوة متنوعة أكثر من الهند ذات المليار ونيّف. ويبدو انه ما من دولة اليوم تبني حضارتها على فكرة قابلة للانتشار.