حوار لا تكاد تجتمع شروطه

Photo

توطئة:

تَعلَّمنا من تجربة السنوات العشر أنّ "الهووي" لا تثيره إلاّ "الأقليات" و"النزعات الانعزالية" ومن يرى في وجهة نظره موقفا أقليّا مقارنة بثقافة الشعب وقيمه وتاريخ مكوناته المشترك. فلا يفتأ يثير المعركة الهووية لتأكيد ذاته ويتهم غيره بإثارتها. فالأقلّي سياسيا وفكريا شغوف بما يميّزه وبرسم الحدود، وهذا مقبول على علاته، لكنه يتطرّف حين يجعل مما يميّزه أصلا. وحين يفشل يرضى بأن يكون موقفه الأقلّي معادلا من جهة وزنه السياسي للموقف الشعبي الجماهيري الأغلبي.

وتعلّمنا أنّ من يثير "الحوار" هو الجهات التي همّشتها إلى حين الانتخابات وأظهر حجمها السياسي الاختيار الشعبي الحر. وهي التي لم تقبل بنتائج هذا الاختيار السياسيّة ودوره في التفويض وقيادة البلاد. فكان الحوار الوطني في 2013 انقلابا ناعما فرضته ملابسات محليّة وإقليمية معلومة.

ومن المهمّ الانتباه إلى أنّ الوضع الحالي لا يمكن قياسه على وضع 2013 كما يُوهم رافضو الاختيار الشعبي الحر ومناهضو الديمقراطيّة ومسارها.

فاليوم تتم العملية السياسة في ظلّ منظومة ديمقراطيّة ونظام سياسي بمؤسسات عليا منتخبة وممثلة ودستور ثورة ومسار يُعمَل على استكمال بناء مؤسساته وتجديد ما تقادمت عهدته منها.

أسس الحوار :

لو كنت جهة سياسيّة أو حزبيّة معنيّة بالحوار لوضعت المستويات التالية شروطا للمشاركة:

1 -أن يكون الحوار بمرجعيّة الديمقراطيّة وأولوية استكمال مسارها ببناء ما لم يُبْنَ من المؤسسات وتجديد عهدة ما بني منها.

2-ألاّ يستثني الحوار أحدًا، إلاّ من اختار أن يكون خارج المرجعية المذكورة ورفض التسليم بها، أو رأى أنّه غير معني بالحوار أو أنّ الحوار لا جدوى منه.

3 -أن تكون مؤسسات الدولة التشريعيّة والتنفيذية المنتخبة هي الإطار الطبيعي للحوار :


-يكون مجلس نواب الشعب إطارا للحوار السياسي : القانون الانتخابي، النظام السياسي، مشكلة تذرّر السلطة وعلاقة الحكم بنصيب السلطة الضروري للحكم، ضعف الثقافة الديمقراطيّة، القانون الانتخابي، تحوير الدستور …

-وتكون رئاسة الحكومة مجالا للحوار الاقتصادي الاجتماعي وسبل تجاوز الأزمة المالية الاقتصادية الصحية.

3 - إقرار هدنة اجتماعية وسياسية تقف بموجبها الإضرابات وخطابات الإقصاء السياسي المتبادل والتجاذب العبثي.

4 -يكون الحوار تحت إشراف "مجلس حوار وطني" برعاية رئاسة الجمهوريّة وعضوية رئاسة الحكومة ورئاسة مجلس نواب الشعب والاتحادات الثلاثة (الشغل، الفلاحين، الأعراف)، وتدعى إليه بقيّة المنظمات والشخصيات الوطنيّة .

حيوية المشهد الديمقراطي:

دون هذه الأسس يصبح الحوار ضربا من العبث وإضاعة للوقت. ولا نظنّ، على ضوء ما يتداول في الموضوع، أن يكون حوار ٌ، وإذا ما كان فبلا جدوى وبلا نتائج في مواجهة أزمة مركّبة يُعتبر الداعون إلى الحوار أبرز المتسببين فيها وكونهم عوامل سياسيّة واجتماعية تمنع تجاوزها.

ولكن يبدو أنّ الموقف السياسي العملي يتّجه إلى "مجاراة " دعاة "الحوار" من ذوي السوابق الانقلابية وإيصالهم إلى باب الدار. وقد تكون هذه المرة آخر دعوات الحوار بالأجندة الفئوية المتوجسة من الاختيار الجماهيري الحر، ليفسح المجال أمام "تسوية تاريخية "ستكون نقلة سياسيّة نوعية في تجربة الدولة والديمقراطيّة، ونعتقد أنّ مسارات السياسة تدفع إليها وإن ببطءٍ.

تسوية تاريخية كانت هيئة الحقيقة والكرامة إطارها ومسار العدالة الانتقالية مجالها الطبيعي، ولكن ما أُبرم من اتفاقيات موازية باسم التوافق(المصالحة المغشوشة: الباجي/الغنوشي)، وما كان من إصرار على إجهاض مسار العدالة الانتقالية من قبل من استُؤمنوا عليه (رئيسة الهيئة وبعض مساعديها مثلما كشف تقرير دائرة المحاسبات) حالا دون ذلك.

ملخّص المشهد الحالي أنّ الإجماع المطلوب حول الديمقراطيّة ومسارها لم يحصل ولن يحصل قريبا. فكثير من أدعياء الانتساب إلى الثورة و"جماهير شعبنا" يعتبرون بينهم وبين أنفسهم الديمقراطيّة تهديدا وجوديا، فيتحصّنون، إلى حين، بما بقي من حصون للنظام السابق لم تطله الديمقراطيّة، ومن هذه الحصون يمارسون التحزّب بقناع اجتماعي ووطني.

من المهمّ أيضا الانتباه إلى حراك داخل "المشهد الديمقراطي".

فمثلما يغادر البعض الأرضيّة الديمقراطيّة باتجاه الدعوات الانقلابية والبلطجة السياسيّة(محمد عبو، بلطجة التيار والكتلة الديمقراطيّة في مجلس النواب بعد "الخبش التاريخي" اقتداءً بالفاشية واستكمالا لما أهملته عبير منتهية الصلوحيّة)، هناك فئات سياسيّة من القديم تتدقرط باطّراد وبنسب وغايات مختلفة(الشاهد ومبادرته مثالا) وهناك فئة ثالثة تصحح مسارها وتؤكد تمسكها بالمسار وبالمرجعية الديمقراطيّة وبضرورة رسم حدود واضحة مع مناهضيها من فاشية وشعبوية (مواقف الحزب الجمهوري مثالا).

فمدار العركة على "مسار ديمقراطي" يقطع أشواطه الأخيرة بصعوبات بالغة وعلى قاعدته تتوزع القوى وتُرسم الآفاق.

بالمختصر المفيد

ثلاثة شروط ذكرناها ونعود إليها، لتقديرنا أنّه بدونها لن يكون "الحوار" في خدمة الديمقراطيّة وبناء المواطنة:

1 - أن يكون الحوار بمرجعيّة الديمقراطيّة ومسارها في استكمال مؤسسات النظام السياسي الجديد.

2 -أن يشارك فيه الجميع، إلاّ من تنكّر لمرجعية الديمقراطيّة، أو لم ير للحوار ضرورة.

3 -هدنة سياسيّة بإيقاف التجاذب العبثي بين مؤسسات الدولة العليا الثلاث : البرلمان، الرئاسة، الحكومة، وهدنة اجتماعية بإيقاف إضرابات الشعب المهنية الانتقامية.

ومن المهمّ أن يكون هناك، قبل هذا، اتفاق على الهدف من الحوار، ويتمثّل في توفير الشرط السياسي والوطني لمواجهة الأزمة المالية الاقتصادية والصحيّة بخطة وطنية تستدعي قرارات وحلول سياسيّة لمواجهة الأزمة المركّبة (أشكال حكومية بمرجعية الديمقراطيّة وانتخابات 2019: حكومة وحدة وطنية…الخ).

إذا لم تتوفّر هذه الشروط يصبح تواصل الحديث عن الحوار والدعوة إليه مضيعة للوقت وعملا على أجندات فئوية مشبوهة.

ويبدو أنّ التحوير الوزاري المرتقب، إذا راعى حقيقة الأزمة وركّز على نقاط الضعف الفعلية في تركيبة الحكومة الحالية، وحاز موافقةً ومشاركةً مِن قِبل الحزام السابق وجواره البرلماني المهيّأ لذلك، يكون الخطوة العملية لتجاوز فكرة الحوار ومن اقترحها ومن حاول الاستفادة منها. والتحوير الوزاري إذا تمّ بالدقة المطلوبة والاختيار المتبصّر، سيخلق وضعا جديدا، يُنسي في "الحوار" ، حتّى وإن بقيت الحكومة "مستقلّة بحزام سياسي حزبي".

تقديرنا أنّه لا تتوفّر، في مشهدنا، شروط الحوار بمفهوم 2013 وروحه الانقلابية، وأنّ من يدعو إلي مثله ومن يساند هذه الدعوة يخطئ في الحساب السياسي بالمراهنة على رئيس الجمهوريّة بعد اكتشاف مناهضته للمسار الديمقراطي، وقدرته على إرباك المؤسسات السيادية ومنع تكاملها تحت سقف الدستور.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات