الحوار الوطني في تونس: تلغيم المستقبل

Photo

خضع الجميع مرة ثانية للنقابة وأعلنوا الدخول في حوار وطني جديد، وكان الرئيس الذي يسير بلا خطة آخر الخاضعين للنقابة، فماذا سيناقش الحوار الوطني الجديد؟ وماذا سيقترح على تونس في مفتتح العام الحادي عشر للثورة؟

حتى الآن نسمع عن الحوار ولا نقرأ جدول أعمال، بل إن الصراع بشأن المشاركين سبق كل حوار، وصار الحزب الفاشي أحد أطرافه باستحقاق ونرى أن هذا هو الهدف اليتيم لهذا الحوار الملغوم بسوء النية ونكتب عاجزين متشائمين، فالحوار الثاني مثل سابقه مفروض من النقابة التي تختطفها الأطراف السياسية غير ذات الوزن في الشارع، لكنها الأطراف الأقدر على وضع البلد على حافة الهاوية في سياق صراعاتها الأيديلوجية المفوتة التي لم تعد تعني التونسيين في شيء.

حوار إدماج الفاشية بواسطة يسار النقابة

تكفي هذا الجملة لفضح نية الحوار الوطني الجديد لكننا نفصل، لقد جرت الفاشية البلد إلى مربعها الخاص وفرضت نفسها على جدول أعمال البرلمان وانضمت إليها جوقة الإعلام الفاسد تقدمها في صورة المخلصة من الكوارث التي أحدثتها الثورة (هكذا) لكن زعيقها البرلماني وخطابها الفاشي بدأ يفقد تأثيره على الناس وظهرت مؤشرات قوية على تراجعها من خلال أسبار الآراء الكاذبة التي يعرف أغلب التونسيين طرق فبركتها وترويجها على أنها حقائق، خاصة بعد فشلها وحلفائها في سحب الثقة من رئيس البرلمان فضلًا عن متغيرات دولية في الجوار (المسألة الليبية وتطوراتها) وفي الساحة الدولية (هزيمة ترامب وعودة الديمقراطيين) تكشف أن اتجاه الديمقراطية لا تراجع فيه رغم العثرات، لذلك وجب إدماجها من جديد في المشهد وربما التعويل عليها لبناء تحالف فلول المنظومة المنهارة في أفق انتخابات 2024.

لذلك لا نرى غرابة في وضع الحزب الفاشي في مقدمة المدعوين للحوار وبشروطه وهي في الحقيقة شروط اليسار الاستئصالي الذي قطع لسانه في انتخابات 2019 ووجد نفسه خارج كل مواقع التأثير السياسي القانوني، لذلك أيضًا قبل شرطها وشرط اليسار في استبعاد ائتلاف الكرامة بعد أن لفقت له أحاديث الإرهاب ورفض الدولة المدنية.

هذا الحوار سيعمل على تحقيق هدف أول وهو تطبيع النخبة السياسية مع الفاشية الشريكة في الدولة المدنية والتغطية على خطابها الاستئصالي وعلى مشروعها الرجعي الممجد للديكتاتورية النوفمبرية ولأساليبها القمعية في مواجهة الخصوم السياسيين، وسيجري الحوار تحت الضغط النقابي وسنجد الفاشية مكونًا ديمقراطيًا يسهل التحالف معه لذلك نقول إن هذا الحوار يستبق انتخابات 2024 ليحدد ما بعدها.

حوار محاصرة الإسلاميين مرة أخرى

التطبيع مع الفاشية يمهد لبناء تحالفات سياسية معها تحت مظلة خطاب مدني يقصي حتى الآن ائتلاف الكرامة (الإرهابي)، لكنه لا يغفل في الواقع عن الجدار الأقوى ورائه أي حزب النهضة، ودون مغالاة في تأويل الأحداث الدولية لصالح الإسلاميين (وهم يطربون لسماع حديث مماثل) فإن خسارة حفتر في ليبيا واندحاره ومموليه والتحول في موقف العسكر المصري منه أصاب طابوره التونسي بخيبة مدمرة، فالحل لن يأتي من الشرق بل إن تقدم الحل السياسي في ليبيا سيكون له بعض الفائدة للإسلاميين خلال الفترة القريبة القادمة.

إذ إن رصيد الإسلاميين في ليبيا ليس هينًا بما يعني أن يحارب إسلاميو تونس وليبيا كتفًا بكتف لفرض خيارتهم السياسية غير العسكرية، وهذا منذر بعودة النهضة إلى موقع سياسي أقوى في تونس بانتخابات 2024.

وينتعش الإسلاميون في تونس من كل حديث عن نجاحات اقتصادية وسياسية يحققها حليفهم التركي الذي فرض الحل السلمي في ليبيا وجر السيسي إلى مربعه، وليس لدينا تفاصيل الكواليس لكن العين الحمراء التي يظهرها التركي لفرنسا تبعث طمأنينة كبيرة في نفوس الإسلاميين، فهم يعرفون دور فرنسا في محاربتهم بالداخل وبناء التحالفات ضدهم ونخال أن الحوار الوطني الجديد هو خطة عمل فرنسية قبل أن تكون مطلب الشعب التونسي الذي يعيش خارج هذه الصراعات ويعاني الأمرين من النقابات الفاشية.

ما زال حزب النهضة حجر الزاوية في المشهد السياسي التونسي، ويبدو أن المكائد التي حيكت لتخريب العلاقة بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان لم تنتج شيئًا يساعد على تقليص موقع النهضة، فالرجلان يتحاوران (ليس حوار إخوة ولكنه ليس حوار أعداء)، وسيكونان في الحوار الوطني متجاورين وهو الحوار الذي سيدفع الرئيس إلى الانكشاف والخروج من غموضه الذي ينجيه حتى الآن من النقد الجذري، وانكشافه سيكون لصالح الإسلاميين لأنه لا يملك أن يزايد عليهم في شيء وإذا وضعت أحكام الباب السابع (الحكم المحلي) على جدول أعمال الحوار الوطني ونظن أن الإسلاميين سيدخلون الحوار بهذه الورقة فإن مشروع الرئيس عن التصعيد المجالسي المباشر سيتحول إلى نكتة لا تضحك أحدًا، علمًا بأن الباب السابع هو ثمرة عمل النهضة وحليفها حزب المؤتمر في المجلس التأسيسي.

الحديث عن فساد النهضة قضى على مروجيه

في الوقت الذي تنفجر فيه قضايا الفساد في كل مفصل من مفاصل الدولة، نكتشف أن الفاسدين ليسوا من النهضة بل هم الأقرب إلى روح الفاشية، فهم أولاد المنظومة الإدارية التي حكم بها بن علي، وفي كل قضية يخرج الإسلاميون أبرياءً من كل تهم الفساد الرائجة حولهم ولذلك فإن عقلاء كثيرين في البلد يفرزون حديث الفساد ويجدون النهضة خارجه بما يزيد من شعبيتها رغم الهرسلة اليومية لرئيسها في البرلمان.

حديث الترويج لفساد النهضة قضى على المستقبل السياسي لمحمد عبو الذي لم يفلح في تقديم دليل واحد عليه، وقد فهم الآن سر طلبه لوزارتي العدل والداخلية في حكومات ما بعد 2019 والجميع يقول الآن كان يريد استعمال الإدارة ضد خصم سياسي على طريقة بن علي، لذلك لم يعد فرس رهان كبير يعتمد عليه من الخارج رغم أنه يعلن استعدادات انقلابية على طريقة السيسي، وصورته الآن هي صورة سياسي صغير فاشٍ بلا أفق يمنحه حظوة الوقوف في وجه الإسلاميين وقيادة تحالف مدني لانتخابات 2024، وهو ما يوسع الطريق للفاشية التي جرته إلى مربعها وقضت عليه وقد ظن أنه يستعملها فإذا هو أداة صغيرة بيدها استهلكت بسرعة قياسية.

كل هذه المعطيات تتجمع لتكشف المشهد السياسي قبيل انتخابات 2024 وما بعدها ومن هذه الزاوية يكون الحوار الوطني محاولة استباقية لبناء قوة سياسية تكون الفاشية ويسار النقابة في قلبها لمواجهة الإسلاميين.

أما قضايا الاقتصاد والتنمية وعودة الإنتاج والخروج من وضع ركود قياسي ضاعفه وباء كورونا فهو ليس في حاجة لحوار وطني، إذ يكفي أن تعلن النقابة هدنة اجتماعية ليعود الاقتصاد إلى الحركة وهذه الهدنة المطلوبة منذ 2011 لن تمنحها النقابة أبدًا ولو بعد الحوار الوطني.

هناك الآن قائمة معلنة من الإضرابات العامة الجهوية المبرمجة للعام الجديد كوسيلة ضغط لفرض الحوار وإذا لم تجد النقابة غنيمتها السياسية فيه فإن الإضرابات ستتواصل.

ونعتقد بيقين أن العام السياسي الجديد سيكون مشابهًا لما سبقه إلا إذ ألزمت الجهة الخارجية التي تملي على النقابات (فرنسا تحديدًا) بلزوم الهدوء ولا نراها تفعل، فحالة الهدوء تفتح الطريق واسعًا للإسلاميين للتقدم في اتجاه الحكم سنة 2024. حوار وطني لتلغيم الزمن القادم إذا نجح فشل البلد، لكنه سيكون رغم ذلك مناسبة لفرز جديد، فالصف الفاشي يتآلف لهجوم أخير لكنه يغفل أنه يدفع الناس (الشعب) بعيدًا عن النقابة ويسارها وربما يقبض الإسلاميون ثمن صبرهم على الفاشية بكل شقوقها قريبًا في الصندوق الانتخابي.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات