عن الحمار الذهبي والتنمية في تونس..

Photo

زيارة ثانية لبلد خليجي ولكنها ليست زيارة تعزية، يجب أن نحمد الله على ذلك، فسفر الرئيس قد يكون خارج دبلوماسية الجنائز، ونحمده أيضا أن لم تكن هناك في قطر أكتاف للتقبيل، فلقد حمتنا الكورونا في عار إضافي. رأيت أو سمعت من يفرك يديه سعيدا بالمكاسب المرتقبة من الزيارة، وسمعت نواحا أيضا فقد تم بيع البلد لقطر الإخوانية.

صراع إعلامي متوقع بين أنصار قطر وأنصار الإمارات في تونس، دون أن ننسى المتفجعين على مصالح فرنسا في تونس، والذين يغفلون أن لقطر والإمارات استثمارات في فرنسا تفوق ميزانيات بلدهم الرازح تحت نير النقابات التي توسمها فرنسا بجائزة نوبل. في أجواء الحرب الإعلامية هذه، هل يمكن أن نحمل هذه الزيارة معاني ودلالات أكثر أهمية؟

الخليج ينتظر بايدن قبل قيس سعيد

رفع سقف التوقعات الأخيرة من زيارة قيس سعيد لقطر واعتباره انتصارا لمحور الربيع العربي؛ عمل مفرط في التفاؤل أو هو مواساة ذاتية، فالخليج العربي ينظر إلى البيت الأبيض ولساكنه الجديد، فمن هناك يأتي التأثير الحقيقي.

فمن هناك قام الديمقراطي باراك أوباما بتشريع انقلاب عسكري في مصر كسر موجة الربيع العربي ومد لمحور الإمارات في طغيانه، ومن هناك قام الجمهوري ترامب بتشريع حصار قطر، ومد في طغيان محور الإمارات وحلفائها حتى امتدت أذرعها الى تونس لتخريب تجربتها الديمقراطية.

تطلعات دول الخليج الى البيت الأبيض رغم ذلك ليست واحدة، فما تنتظره الإمارات ليس ما تنتظره قطر. فساكن البيت الأبيض هو من يمكن أن يفك قبضة محور الإمارات عن عنق قطر ويسمح لها بالتنفس، ومن يمكنه لو كانت لديه الخطة أن يحجّم محور الامارات ويعيد إطلاق موجة الربيع العربي المخنوقة بقبضة إماراتية، وقبل ذلك نعتقد أن قطر المكبلة بحصار خانق لا يمكنها أن تكون بنفس الفعالية المرجوة من الساعين إليها طمعا في المساعدة.

من هذه الزاوية أرى أن زيارة قيس سعيد ليست أكثر من زيارة مجاملة؛ تأتي ردا على زيارة الأمير القطري إلى تونس وتوجيهه دعوة بروتوكولية للرئيس التونسي.

المؤثر الحقيقي في بلدان الخليج هو خطة الرئيس الأمريكي للمنطقة، ولا نظن أن هناك اختلافا جوهريا بين الديمقراطي والجمهوري لجهة دفع التغيير نحو الديمقراطية ونشر الحريات.

ونعتقد أن وضع بلدان المنطقة على شفير الاحتراب الدائم دون السماح لها بانتصار في أي اتجاه؛ هو خطة قديمة تستعاد بتغيير أسماء الرؤساء. إن النوايا الحسنة التي قد تدفع قطر إلى مساعدة بلد يسعى في طريق الديمقراطية مثل تونس؛ تعادل عند البيت الأبيض نفس النوايا الخبيثة التي تصدر عن محور الامارات لتعطيل الديمقراطية في تونس وليبيا ومصر وغيرها. ووضع هذه التوجهات في حالة توازن قوة لا يسمح لأي محور بالانتصار هو السياسة المتوقعة بقدوم بايدن، ولو أمر بايدن برفع الحصار الخليجي عن قطر سنعتذر عن هذا التحليل.

ماذا يفعل قيس سعيد في قطر؟

على هامش الزيارة ألّف أصدقاء قطر رواية سريعة مفادها مصالحة بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان المختصمين، بلا سبب واضح، ووسعوا المصالحة بين الرئاسات الثلاث بما يمهد لمرحلة من السلام السياسي والتفرغ لقضايا البلد الحقيقية، وبنوا خيالات كثيرة عن مساعدات قادمة لحلحلة الوضع الاقتصادي المتعثر. هل كانت لديهم معلومات لم تتح للعوام، أم أنهم يصطنعون وهْما انتصروا به على الإمارات في تونس وليبيا، ورأوا من خلاله الديمقراطية تعود في مصر.

في الواقع البعيد عن الأحلام الكسولة نتذكر أنه لم تكن قطر على خريطة الرئيس وعلى قائمة أصدقائه، فلم يثبت أن للرئيس خريطة ولا قائمة أصدقاء قبل أن تولى وبعد أن تولى، وهو الذي لم يتحدث أبدا في الدبلوماسية الاقتصادية. فالرجل يتحدث دوما في القانون الدستوري، حتى أنه ألقى خطابا في الموضوع في قطر (نخشى أن يكرره في زيارة محتملة إلى السعودية، حيث أن الحديث عن الدساتير يعتبر خروجا عن الملة).

الرئيس الذي اصطنع معركة مع رئيس حكومته ورئيس برلمانه في الداخل دون أن يقنع الشعب الكريم بسبب منطقي لهذه المعارك، لا نراه يفكر في أفق أوسع من درسه الدستوري المكرر، بما يقلل من الآمال المعقودة على زيارته إلى قطر واعتبارها فاتحة عهد تنموي جديد.

ونحن هنا لا نلقي عليه درسا، ولكن هناك مقدمات منطقية متاحة لعوام الناس يفهمونها بالحدس والفطرة. فالرجل الذي عطل المصالحة في ليبيا تحت زعم الحياد بين فرقاء، أغلق حدود بلاده وعطّل شريانا اقتصاديا كان يضخ فيها دما تنمويا كبيرا. وهو يشاهد الآن ميل الليبيين الى حلفاء آخرين في مقدمتهم تركيا التي تزود الآن طرابلس بغذائها عبر البحر، وهي التي تزودت دوما من تونس بالشاحنات الصغيرة كأي مدينة تونسية. من فعل هذا مع ليبيا لا يملك خيالا تنمويا يجعل زيارته الى قطر ذات أهداف تنموية. فالزيارة الاقتصادية لها تقاليد، وإن لم تكن للرئيس صلاحيات تنفيذية كما في الحالة التونسية. فريق الرئيس الى قطر يكشف طبيعة الزيارة وحدودها، ولذلك فإن الرواية الرومانسية التي بُنيت حولها لا تعدو كونها أحلاما كسولة.

قليل من الواقعة قد يفيد الحالمين

ولو أن اللقاء الأخير بين القيادات الليبية عُقد في تونس، فلم يكن أكثر من فرصة أخرى للرئيس لإلقاء خطاب حول القانون الدستوري. وقد رأينا أن الحل السياسي في ليبيا جاء من خارج تونس، ونرى أن الحل الاقتصادي في تونس لن (زمخشرية) يأتي من قرطاج، حيث لا يوجد خيال سياسي ولا تنموي. ربما لن يأتي من القصبة (الحكومة) أيضا رغم الحل الذكي لاحتجاج الكامور، ومن غير المتوقع أن يأتي من برلمان عبثت به الفاشية وعطلت سيره.

الحل لن يأتي أبدا من مساعدات خارجية ولو نقعت في رحيق الأخوة والمحبة، فثمة لحظة واقعية سينتهي عندها الجميع يوما عندما يتوقفون عن الهروب إلى الإمام خوفا.. إنها النقابات. من يتجرأ على رؤية هذه الحقيقة ويضع خطة إيقاف التغول النقابي سيجد نقطة البداية لتحقيق التنمية بموارده الذاتية، ولن يحتاج الاستعانة بصديق. بخلاف ذلك، سيدور حديث كثير فيه تفاؤل مفرط وانتظارات حالمة، وفيه نواح وعويل على المستقبل الذي بيع لخط "الربيع العبري".

ولقد علمنا في تاريخ الأدب أن كل روايات الخيال العلمي كُتبت في مكاتب مغلقة على ضوء فانوس لطيف، ولم يغادر الكتّاب كراسيهم، وسنعتبر التنمية التي جلبها قيس سعيد في حقيبته من قطر وروّج لها أنصار قطر في تونس من روايات الخيال العلمي. يمكن أن نذكر أيضا، لعل فائدة تحصل لمؤمن، أن أول رواية في تاريخ الأدب كُتبت في تونس وكان عنوانها "الحمار الذهبي".

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات