الغنّوشي وخصومه داخل حركة النهضة

Photo

لعلّ أوضح دليل على أنّ النهضة تخلّصت من إرثها الفقهيّ التقليديّ والتحقت بمنظومة الأحزاب السياسية التونسيّة ظهور الصراع داخلها إلى العلن وخروج قياداتها عن التحفّظ في التعبير عن ذلك الصراع الصراعات داخل الأحزاب ليست أمرا سيّئا بالضرورة.. وأغلب السياسيين في تونس كانوا يتحدّثون عن السياسة، ولمّا جاءت الثورة صاروا يمارسون السياسة، والممارسة مختلفة عن التنظير..

صار السياسي يعيش السياسة فيعرف موقعه منها وصبره عليها.. وصارت السياسة مجالا لامتحان هؤلاء ومعرفة كفاياتهم وميز قدراتهم.. وميدانا لفحص ديمقراطيتهم واختبار صلابتها.. لذلك تلاشت كثير من الأحزاب وتفرّق رفقاء الأمس مع أولى نسائم الحرية التي هبّت على البلاد.. بدت الأحزاب مثل تلك الدكاكين التي لم تعد تتسع لكلّ من فيها، لا فرق بين من يتحدّث عن الإسلام ومن يتحدّث عن العروبة ومن يتحدّث عن الأمميّة العالميّة.

في بحر الحرية المتلاطم وجدت الأحزاب نفسها في مأزق واحد، وضاقت الفروق الموضوعية بينها، صبّتها روافدها المختلفة في نهر واحد تعوم فيه جنبا إلى جنب بإسلامها وعروبتها واشتراكيتها وليبراليتها وكلُّها تلهج بالشعارات نفسها: الحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنيّ.. ولم يعد من المقبول لأحد أن يحتكر فكرة ينسبها إليه دون غيره.. المعاني مبذولة للجميع وفي الأداء يتنافس الفرقاء.. ضاقت الفروق الموضوعية حتى تلاشت وبقيت فروق النفوس وأحقاد ما قبل الحرية يتوارثها الأتباع يتزوّدون منها ويعيشون عليها... وظلّوا بما ورثوا ملتفتين إلى الوراء لا يستطيعون إلى التقدّم سبيلا..

النهضة ليست بدعا من الأحزاب.. وما يجري داخل الأحزاب يجري بداخلها.. جميع الأحزاب السياسية شهدت تصدّعات ناجمة عن صراعات بين قياداتها على المواقع، ويبدو أنّ تماسك حزب النهضة صار ماضيا متعلّقا بما كان من علاقات "الأخوّة" بين هؤلاء عندما كان الانتساب إلى الحركة يستدعي أثمانا باهظة.. أمّا في زمن الحرية ومع خروج النهضة إلى العلن تُنَافِسُ على الحكم، فقد اختفت الأخوّة لتحلّ محلّها علاقات أخرى مختلفة عنها..

الأخوّة كانت موصولة بالتضحية بالنفس في سبيل "الأخ".. أو هكذا تقول المرجعية الإيمانية التي كان كلّ نهضويّ ملزَمًا بها في ظاهر أمره على الأقلّ.. العلاقات الحزبية الراهنة ليست من الأخوّة في شيء.. هي علاقات تحكمها المنافع والمصالح.. والمنافع والمصالح قد تستدعي التضحية ب"الأخ" في سبيل النفس أحيانا.. كثير من قيادات النهضة استبدلوا بمرجعيتهم الدينية الأخلاقيّة مرجعية أخرى ترى الأنانية أصلا والمنفعة وجهةً والمصلحة الشخصية طريقًا... وهذا فارق جوهريّ بين اللحظتين.

ما يطفو على السطح صراع بين أطروحتين:

- أطروحة أصحابها ديمقراطيون يسعون إلى الارتقاء بحزبهم ليكون حزبا ديمقراطيا عصريا تحترم قياداته القانون وتنضبط للّوائح وتنزل عند التداول. وهؤلاء هم خصوم الغنّوشي.

- وفي مقابلها أطروحة أخرى يمثّلها راشد الغنّوشي والمصطفّون معه، وهؤلاء لا يرون معنى لحركة النهضة بدون قيادة الغنّوشي.

جديد يواجه القديم.. وديمقراطية في مقابل الدكتاتورية.. وبطبيعة الحال يملك كلّ فصيل الحجج التي يدافع بها عن أطروحته…

هذا على السطح أمّا خلف السطح فالمعركة إنّما هي معركة مواقع بين قيادات ترى أنّ ظهورها رهين غياب الغنّوشي ومن حقّها أن يغيب هو لتظهر هي، وبين قيادات أخرى لا ترى الحركة منفصلة عن الغنوشي الرئيس الشيخ الأستاذ.. وهؤلاء مصلحتهم متعلّقة بالغنّوشي كما يقول خصومهم.

قد يكون الغنّوشي دكتاتورا كما تردّد بعض قيادات حزبه ولكنّ ذلك لا يعني أنّ قيادات النهضة الذين ينادون بالتداول على تسيير الحزب ديمقراطيون بالضرورة.. مثلهم مثل القيادات المتصارعة داخل الأحزاب الأخرى وداخل النقابات قد تبدو ديمقراطية في خطابها بينما دون أن تصدّقها ممارساتها …

وحين نقرأ سلوك الأحزاب والمنظّمات وما يجري في مجالس قياداتها ندرك أنّ الديمقراطية مجرّد طريق وعرة هم مكرهون على السير فيها بلا إيمان.. ومن ينتصب في موقع يعضّه حتى لا يكون لغيره بعده نصيب منه.

يبدو، ممّا يجري داخل الأحزاب وفي ما يجري بينها، أنّ العرب لم يفهموا السياسة إلّا ملكا عضوضا، لذلك يخيّم الاستبداد على تاريخهم السياسي رغم حديثهم اليوم عن الديمقراطية.. ولا يبدو ذلك غريبا إذا علمنا أنّ كثيرا من الذين يدافعون عن حرية المرأة في مجتمعاتهم، يكتبون ويحاضرون، إذا دخلوا بيوتهم مارسوا تسلّطهم على نسائهم وكذّبوا بأعمالهم ما طفحت به أقوالهم…

بعض القيادات في حزب النهضة باتت ترى في رئيس الحركة عبئا عليها لأنّه يتفوّق عليها بالزعامة التي عليها يبني شرعيته وبفضلها يستمرّ على رأس حركته.

راشد الغنّوشي بقي زعيما لحركة النهضة في مختلِف محطّاتها حتّى تلك التي لم يكن فيها هو الرئيسَ.. ظلّ هو المرشد الأعلى لحركة "إسلاميّة" ترى نفسها مشدودة إلى منظومة قيميّة على رأسها قيمة "البرّ".. ولمّا كانت قيمة البرّ تستدعي الأبوّة فقد ظلّ منتسبو الحركة في مقام الأبناء الذين يعاملون رئيسهم كما لو كان أبًا لهم يرون عقوقا كلّ ما يخالفه.

في هذه اللحظة خرج الأبناء من جلباب الأب الذي صار عبئا عليهم حائلا دون بروزهم.. يرى هؤلاء أنّ العمل الحزبيّ لم يعد في حاجة إلى الزعماء.. يكفي أن يكون أحد هؤلاء رئيسا للحزب ليتساوى مع غيره من رؤساء الأحزاب المنافسة، فيكون على شاكلة محمّد عبّو وحمة الهمّامي وزياد لخضر... لن يكون رئيس النهضة القادم مختلفا في شيء عن هؤلاء الرؤساء.. وسيجد نفسه شبيها بهم يقع في ما فيه يقعون.. غير أنه سيجد من أبناء حزبه ما لا تعرفه الأحزاب الأخرى من تدقيق محاسبة.. إذ أنّ روح النقد السائدة داخل النهضة متحفّزة دائما تصل بالبعض حدّ الشراسة.

كان رصيد القيادي من هؤلاء يرتفع بقدر ما كان له من صمود في وجه الاستبداد، على أنّ الصمود لم يكن حكرا على القيادات بل لقد دفع كثير من منتسبي الحركة في المستويات القاعدية أضعاف ما قدّمته القيادات، والمحرقة لم تُبْقِ من الذين ثبت للنظام انتسابهم إلى الحركة على أحد.. أمّا في زمن الحرية والعمل القانونيّ فقد دنت الرغائب وساغت المطامع وصار من يلتمس في نفسه قدرة على التسيير يبحث عن الصدارة.. وصارت الديمقراطية لدى البعض تقاس بما يبدي من الجرأة على الرئيس والنيل منه لتجريحه لأجل تجريده من ملامح الزعامة، وبذلك يستوي مع غيره.. وتكون منافسته ممكنة.

الديمقراطيّة والقانون يقولان إنّ من حق أبناء الحزب أن يتنافسوا على المواقع القيادية ويقولان كذلك بضبط المسؤوليات وتحديد عهدات المسؤولين بمن فيهم رئيس الحزب، ومن حق هؤلاء أن يناضلوا لأجل فرض الديمقراطية داخل حزبهم كما ناضلوا لفرضها في البلاد.

يُتَّهَمُ راشد الغنوشي بأنه دكتاتور داخل حزبه وبأنه يسحق القيادات لأنّه يحول دونهم. وبات بقاؤه على رئاسة الحزب مشكلا له ولمنافسيه ولحزبه لأنّ البلاد دخلت منعطفا ديمقراطيا ما عاد يسمح بتأبيد أحد في موقعه في زمن التداول والتجريب.. لقد انقضى عهد الزعماء.. ولم يبق لراشد الغنوشي بين الأحزاب الأخرى زعيم ينافسه، لذلك لم تعد زعامته مقبولة لدى كثير من أبناء حزبه.. بل كأنّها باتت عائقا سياسيّا.

هل يمنع الغنوشي، فعلًا، منافسيه داخل الحزب حقوقهم في قيادة الحركة واختيار طريقة تسييرها؟

الراجح عندي أنّ الغنوشي قد انفرد بقيادة النهضة لاعتبارات من أبرزها:

1. أنّ منافسيه لا يملكون رؤية مختلفة عن رؤيته ولا جديد في أفكارهم يتجاوز قديمه.

2. أنّه أقدر منهم على التأثير والإقناع فوق الطاولة لا تحتها رغم تكتّلهم ضدّه.

3. الرجل استثمر عمره في القراءة والاطّلاع ونجح في توسيع شبكة علاقاته الدولية حتّى بات مقرّبا إلى الرؤساء والأمراء.

4. أثبت في كثير من الأزمات أنّه يتدخّل في الوقت المناسب ليقلب الأوضاع، ويجترح الحلول ويخرج حركته من الضيق إلى السعة ومن الهزيمة إلى النصر، وعلى ذلك شواهد كثيرة يعرفها المراقبون داخل النهضة وخارجها.

5. تشهد تلك الخصال للرجل وتجعل منه قيمة مضافة داخل حزبه ليست لغيره : فَهْمٌ لمختلِف جوانب الصراع ووعي بأبعاده وصبر على تحمل الأعباء والتدخل في الوقت المناسب.

ولكن هل يعني ذلك أن يظلّ الرجل في مكانه لا يتزحزح عنه حتى يموت؟

حتما لا.. وليس مقنعا ما يُذكر من حجج وما يقال عن الظروف وأحكامها على مختلف الصعُد الوطنية والإقليمية والعالمية وعمّا تبذله الدول المتربّصة بالثورات من جهود وما تنفقه من أموال لإسقاط التجربة التونسية باستهداف حركة النهضة التي تنظر إلى نفسها باعتبارها عمودها الفقري.. وبالخلاص من النهضة سيكون من السهل استهداف التجربة بكاملها.. ليس كلّ ذلك مقنعا إذ أنّ الديمقراطية تتقوّى باحترامها والتداولُ على التسيير من علامات احترامها.

ولكنّ المنطق النفعي بعيدا عن الأشكال الأدائية التي تستدعيها الديمقراطية يدعونا إلى التريّث عند النظر إلى الأمور.

الرأيان كلاهما لهما أنصار داخل حركة النهضة ومثلما لا يصحّ أن ينتهك الغنوشي القانون بتنقيح الفصل 31 للتمديد لنفسه على رأس الحركة ليس من المقبول أن يطالب الرجل بتعهّد سابق لأوانه على أمر لا يعدو شائعة يستفيد خصومه من إثارتها أكثر من أنصاره.

القول بأنّ الغنوّشي دكتاتور لا يختلف عن القول بأنّ خصومه أنصار للديمقراطيّة.. القولان نسبيان.. والأمر لا يعدو صراعا سياسيّا مشروعا بين أطروحتين يبدو أنّهما تتمايزان إلى حدّ التناقض.. ومن شأن هذا أن يسهّل بزوال حركة النهضة التي لن تكون رهينة الغنّوشي ولكنّها لن تكون رهينة الساعين إلى الإطاحة به.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات