هل سيناريو 134 ممكن؟

Photo

هذه الأصوات (من التصويت) اجتمعت في واقعة إسقاط حكومة الجملي في ملابساتها المعلومة. فاجتمع النداء بمشتقاته الحزبية والكُتلية والتيار والشعب... على وجهة تصويت واحدة. ولم يصمد التقارب بين النهضة والقلب رغم التقائهما في التصويت على هيكلة المجلس (الرئيس ونوابه).

هذا السيناريو ليس عملًا تجريديًا ولا هو محض خيال بدافع "هاجس وجودي" يعيشه قسم من الفاعلين السياسيين وينتبه إليه كل من يتوخّى الدقّة في مراقبة المشهد ونسقه السريع وتقلباته المتتالية. وإنّما هو حدث سياسي تاريخي عشناه تحت سقف البرلمان يوم 10 جانفي ولم تمنع الاصطفافات المعلنة وعناوينها المختلفة في علاقة بالثورة والديمقراطية ومكافحة الفساد وتمجيد الاستبداد من أن يقع.

والسؤال هو على أي قاعدة تم؟

مشترك الضرورة

134 في ظاهره هو لقاء سنسميه "مشترك الضرورة"، وهو في تقديرنا لقاء على مشترك أبعد عمقا سنسميه بوضوح "مشترك إخراج النهضة من الحكم" وبعبارة عبير "إخراج الإخوان". ولقد كانت عبير أكثر وضوحا وشجاعة من "شركائها في قائمة 134 " عندما تعتبر عملية "الإخراج" خطوة أولى لهدف لم يُنجز كما خُطّط له في مرحلة الاستبداد هو "الاستئصال".

فالاختلاف بين عبير وسامية في البرلمان الجديد اختلاف في الدرجة وليس في الاتجاه. في البرلمان السابق كان خطاب سامية المتميز لا يُفهم إلا على أنه خطاب يتجه إلى توازن سياسي مطلوب في الديمقراطية بين حزبين كبيرين "نهضوي"و"ديمقراطي" قد يُرسي عندهما المسار الديمقراطي.

غير أنّ دخول الدستوري الحر إلى المنظومة الديمقراطية - حتى وهو لا يتوقف عن هجوها وتتفيهها وتمجيد الاستبداد - غيّر المشهد وثبّت نقطة مرجعية جديدة للخطاب السياسي ويحدد للمعركة السياسية وجهة أخرى.

وفعلا فقد أرهقت عبير جيرانها الثوار والديمقراطيين بخطابها الجذري حتى غدت تدخلاتهم مجرّد تنويع على خطابها، تقترب منه ولكنها تعجز عن بلوغ سقفه وتوجيهه سياسيًا في معركة الديمقراطية المحتدمة. وإنّك لن تظفر بفويرق واحد بين خطاب الجبهة الراحلة وخطاب الدستوري الحر إلا عندما تنتبه إلى اختلاف الملامح بين صورتي حمة وعبير. والنتيجة أنّ خَراج كلّ هذه الخطابات عائد إليها. ولا عبرة بالنوايا في هذا السياق.

شروط تأسيس الديمقراطية كما نفهمها

لا يوجد ولا مشترك واحد يجمع الطيف السياسي رغم انضواء الجميع تحت سقف المنظومة الديمقراطية. ولا يوجد إلاّ "مشترك الضرورة"، وهو في تقديرنا مشترك مناهض لشروط تأسيس الديمقراطية وتمثّل النهضة نواته.

هذا تقدير لن يُفهم منه إلا الدفاع عن النهضة لأنها "إسلامية".

ولهذا الفهم ما يبرّر، ولكن صفة "الإسلامية" عندنا وهم. وقد نكون مبالغين إذا قلنا إنها ظاهرة سياسية أوغل في العلمنة من غيرها، وإنها تمثّل حداثتنا السياسية "المطلوبة" بديلًا عن حداثة سياسة "مجلوبة" أوغل في "التديّن ". وهذا موضوع معقّد ليس هنا مجال تفصيله.

والظاهرة ليست محلية بقدرما تشق المجال العربي، وأظهرت الفرص التي أتيح فيها الاختيار الشعبي الحر بفضل الربيع أنها تمثّل شرط بناء الديمقراطية الأساسي. ولهذا السبب تحارب من قبل أنظمة دينية متخلفة مطبعة تخشى على وجودها من الاختيار الحر، ولو كان اليسار في بلادنا يمثل شرط تأسيس الديمقراطية لتمّت محاربته باسم الشريعة السمحاء وخطر الشيوعية على عقيدة الأمة. وقد عشنا شيئا من هذا في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته في السودان والعراق وسوريا وفي كل السياقات التي مثّل فيها الحزب الشيوعي حالة جماهيرية وتوجهًا نحو العدالة الاجتماعية.

الذي يحارَب في مجالنا العربي اليوم ليس العناوين الإيديولوجيّة وإنّما شروط تأسيس الديمقراطيّة. لذلك فإنّ دفاعنا هو في صميمه دفاع عن شروط تأسيس الديمقراطية، وإنّ العلاقة بهذه الشروط مناهضةً ومعاضددةً سيحدّد مضمون الوطنية والديمقراطية والسيادة والاستقلال التاريخي... ولا يهمّنا إن كانت الأطراف الممثلة لهذه الشروط على وعي بمهمتها التاريخية من عدمه.

في ظل هذا التصوّر يمكن رصد مآلات المأزق الذي نعيش مع انتخابات 2019. فهو مأزق أساسه غياب المشتركات وأهمّها "مشترك شروط الديمقراطية". وإنّ "مشترك الضرورة" مازال مع الأسف موجّها بـ"لوجسيال القديم الاستىصالي" وبرعاية المصالح الإقليمية والدولية (فرنسا تحديدًا). ولا نسقط إمكانية اعتماده على النهضة لتحقيق المصالح المذكورة.

ولكن تجربتنا في التأسيس والانتقال لا تسعف هذه الإمكانية، فالنهضة التي أبدت قبولًا بالتوافق وبوضع يدها في يد القديم وواجهته السياسية (النداء)، وارتكبت خطيئة التصويت على قانون المصالحة الذي لا وظيفة له إلا التغطية على ما نهب من مال عام، وكانت، من وجهة نظرنا، مستعدّة حتى للتطبيع، تحت "الهاجس الوجودي"، لم تُقبل وبقيت مواجهة بفيتو حقيقي من قبل أصحاب المصالح أنفسهم. وفي المقابل بقيت القوى الأخرى تحظى بالدعم رغم الخطاب العالي في مواجهة التطبيع وصناديق النهب الدولية...الخ. ونلاحظ هذا في الفروق تعامل الإعلام الدولي (فرانس 24 مثالًا) وجلّ إعلامنا المحلي مع النهضة ومنافسيها.

بل إنّ أوضح ما نتبينه في خطاب الأحزاب المحسوبة على الثورة هو التركيز على تناقضها مع النهضة مقابل سكوتها النسبي عن مكونات السيستام السياسية المافيوزي منها والفاشي والمتلبس بالديمقراطية.

تشكلات جديدة لم تغيّر من طبيعة الصراع

هذا التشخيص يهيّئ للإجابة عن السؤال أعلاه: هل سيناريو 134 ممكن؟

لا نقرأ موقف النهضة بالانسحاب من حكومة الفخفاخ على أنه ردّة فعل وثأر لحكومة الجملي المسقطة، بقدرما هو انتباه إلى أنّ خطوات عزلها تتسارع وأنّ الأمر لا يتعلّق بعدد الحقائب وإنما بدرجة النفوذ ومن بيده دفّة المسار الحكومي. وأنّ نواة تكتل/تيار/تحيا قابلة للتطوير باتجاه شتات القديم الحزبي جاعلا من حركة الشعب والرئاسة والاتحاد سورًا منيعًا كافيًا لعزل النهضة وإضعاف حضورها في الدولة والإدارة.

ليتنسنى "تمكين" النواة من مفاصل الدولة. ويلعب الشاهد دورًا رياديًا في هذا فهو صلة الوصل بين النواة وامتداداتها مع أصحاب المصالح التقليدية محليا ودوليا.

الشاهد يمثل "مافيا عالمة" لها استراتيجيتها المحكمة جعلت من حاجة النهضة إليها في خلافها مع السبسي وابنه قنطرة للعبور، وقد عبرت، بينما يمثل القروي "مافيا عاميّة" مثلما وضعت يدها مع "مانيشي" نسّقت مع عبد الحكيم بالحاج ، لذلك لا يُعتدّ بها وقد لا يوثق بها من قبل الدوائر الدولية المؤثرة في سياقنا.

نظريًا نحن أمام نواتين: النهضة /قلب تونس/ائتلاف الكرامة ونواة تحيا/تكتّل/تيار. وتبدو لنا نواة الشاهد أصلب للدعم الواسع الذي تحظى به وعلاقتها المفصلية بـ"البورجوازية التونسية" التي لم تخسر معركة قطّ حتى مع المستعمر فقد ضمنت نصيبها الكافي في كل المنعرجات. وهذه الوضعية تعتبر تقدّما للسيستام الذي رغم تشظي واجهاته فإنه لم يفقد فاعليته.

النهضة ليست بعيدة عن العزلة، فقلب تونس قابل لكل صورة، وائتلاف الكرامة حالة صلبة غير قابلة للتأقلم. فهو ليس حزب المؤتمر بقيادة المرزوقي المبدئي وصاحب المشروع الوطني الفذ. وبقدرما يتحمله الرجل ورفاقه من أخطاء وأهمية الأسباب الذاتية في إجهاض الفكرة، فإن عاملين آخرين لا يمكن تجاهلهما:

أولا : موقف النهضة التي خشيت أن يكون المرزوقي وريثها في قيادة المشروع الديمقراطي نحو آفاق أوسع، ولم تنتبه، بفعل الصلف والغرور، إلى أنّ المنصف المرزوقي ليس سي مصطفى الذي علّق أعمال المجلس الوطني فأسعف اعتصام الروز الذي كان يترنّح.

وثانيا: دور محمد عبّو الذي كان يظن أنّه لا مستقبل سياسي له قرب المرزوقي. ولئن كان هذا سببًا سطحيًا فإنّ موقع التيار اليوم في المشهد يكشف عمق سبب الانشقاق. ولم تكن تجربة الحراك بعيدة عن هذا المعنى مع اختلاف الأسباب والفاعلين.

وكما لم يُغفر للرجل استقباله للمقاومة في مؤسسة الرئاسة لم يُغفر له أن كان جزءا من ائتلاف هو صورة من روح 18أكتوبر. وهذا يُفسّر التشويه المنهجي من قبل إعلام السيستام مثلما لم تستهدف أي شخصية سياسية أخرى.

وإذا كانت هذه هي صورة الفاعلين ومواقعهم في المشهد فإنّ مؤسسة الرئاسة بتفويضها الواسع تبقى اللغز وحالة الغموض المتواصلة، وهي أشبه بمنطقة الفراغ القابلة للملء بمضامين مختلفة. إلا أن التصويت الأخلاقي والانتصار للقيمة الذي ارتبطت به بمثّل معطى مهمّا، وقد يكون من الأسباب التي قد تكون عقبة في وجه "سيناريو 134 ". بالإضافة إلى أنّ هذا السيناريو يمثّل تحديّا للأساس الذي بنى عليه الفخفاخ تكليفه والتوجه الاجتماعي الذي رسمه. وإن كان تبريره متيسرًا في مشهد سياسي يصبح فيه السياسي اجتماعيًا ويمسي ليبراليًا. ويوجد من الكتائب الإعلامية المتدربة القادرة على أخلقة الرذيلة.

كما سيمثّل هذا السيناريو هزّا عنيفًا للأساس الأخلاقي والقيمي الذي قام عليها التفويض الرئاسي.
ويوجد معطى آخر ليس هينا هو وجود نخب يسارية وليبرالية وعروبية وإن كانت قليلة تؤمن بالديمقراطية والثورة ولها موقف جذري من القديم ومشتقاته الفاشي منها خاصة.

السيناريو المذكور ممكن ولكن لم تتوفر كل شروطه فالأقرب أن نكون أمام توليف جديد في الحكومة تكون فيه النهضة ليس بشروطها ولكن ليس بشروط غيرها.

لن نخرج عن الصراع الديمقراطي وهذا في حدّ ذاته مكسب وسيكون هذا مقدّمة لجولات جديدة في الانتقال الديمقراطي المهدد بخطرين مباشرين: الانهيارالاقتصادي والخطر الأمني للثورة المضادة على الحدود.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات