ما أخذته مني وزارة التربية

Photo

قبل العودة إلى شتم المربّين، أرجو قراءة شهادتي في التعليم كما عشته. شهادة ظلّت حبيسة زمنا وترفّعت عن نشرها. ما كنت لأكتب ما أكتب لولا ما يحدث من انهيار مفجع للتعليم العمومي والأستاذ القيمة في وطن تتّجه فيه الخيارات بسرعة مريعة نحو التعليم بمقابل باهظ وعبء أقلّ للدّولة التي تجد الحلّ في تخفيض الميزانية وتشجيع المؤسّسات الخاصّة وفي الدّفع التدريجي نحوها دون مراعاة لقدرة التونسي.

ما كنت لأكتب ما أكتب فكلّ ما هو خاصّ يفترض أن يظلّ خاصّا لولا تعالق الخاص والعام في أمر كهذا، وما كنت لأكتب في أمر قد فات لولا أنّي قدّمت الملفّ لهيئة الحقيقة والكرامة كشاهدة على فساد مالي في مؤسّسة تربويّة ما قبل الثورة.

قدّمت كلّ المعطيات والتفاصيل ولن أذكرها الآن فهي تعني من نظروا في الملفّ، فقط سأقول إنّ استتباعات أن تتصدّى أسرتك الصغيرة لفساد مالي في عهد بن علي كبيرة وما يمكن أن ينتج عن ذلك من حصارهو أمر مريع عشناه حتى من أقرب " أصدقائنا " الذّين انقلب بعضهم من فرط خوفهم على مصالحهم إلى أعداء تطبيقا لقول ابن الرومي " إذا انقلب الصديق غدا عدوا مبينا والأمور إلى انقلاب".

فأن ترفع صوتك في تلك الآونة متحدّثا عن فساد مالي في مؤسّسة تربويّة تحت " وصاية " التجمّع يتمّ بطرق ماكرة من قبيل إنشاء جمعيّات وهميّة لجمع الأموال لصالح شخص تتمّ حمايته بقوّة السلطة هو من الممنوعات التي تفضي إلى معاقبتك دون رحمة. العقاب جاء متنوعا ويعلم أصدقائي المقرّبون فقط التفاصيل الموجعة جدّا التي لم يزل أثرها بعد وقد ذكرتها أمام اللجنة في هيئة الحقيقة وأربأ بنفسي عن ذكرها هنا فأنا أمقت خطاب الضحيّة مقتا شديدا، تماما كما لا أحبّ خطاب البطولة والنضال الذّي سرق معناه اليوم.

كلّ خساراتي بسبب دفاعنا عن التعليم العمومي لا تعرفها وزارة التربية التي أشتغل ضمن منظوريها منذ سنوات طويلة ( أو الأصحّ هي تتجاهلها فهي تعلمها حقّ العلم ). وكلّ هذه الخسارات لا تعنيها رغم أنّ سببها النهب و الفساد القديم الذي نخر جسم التعليم في سنوات العهد السّعيد، وكان يفترض أن تحمينا إن لم يكن ردّ اعتبار كما طالب بذلك بعض من شهدوا المعركة.

وكلّ هذه الخسارات الذاتية التي تحوّلت بفضل الإرادة إلى انتصارات ونجاحات لا تعني شيئا أمام خسارات هائلة يعيشها التّلميذ التونسي منذ عقود بسبب هذا الفساد وبسبب تحويل التعليم إلى سوق مفتوح للفوضى. فبعد القرار السياسي آنذاك بتحويل النجاح إلى " هبة رئاسية " لإخراس الرّأي العام وذلك بإلغاء المناظرات وإدخال 25 بالمائة في الباكالوريا تحوّل النجاح إلى فرح وهميّ نرقص فيه على إيقاع فراغ معرفيّ إلّا من رحم ربّك.

وتحوّل الأستاذ تبعا لذلك إلى كومبارس له دور الموافقة على النجاح الآلي في أغلب الأحيان ( تذكّروا زملائي مجالس الأقسام كيف تتم )، وصار التمييز واضحا في من تحتفظ بهم المدرسة التي تحوّلت إلى حاضنة ومن تلقي بهم في الشارع من أبناء الفئات المهمّشة خاصّة ممّن لا سند ولا مال لهم، ومن هنا تراجع دور الأستاذ في بناء العقل والروح تراجعا مخيفا وصار في كثير من الأحيان شاهد زور على تزييف المعرفة والتجهيل المقنّع الذي نتبيّن نتائجه العميقة اليوم وبصورة فجّة في هذه القدرة العجيبة على التلاعب بالعقول وفي هذا التصديق الخرافي للإشاعات والأراجيف وفي هذه السطحيّة المريعة في الفهم والتشوّه المرعب للروح وفي هذه القدرة على النهش اليومي ، وأيضا في هذا الكمّ الهائل الذي تلفظه المدرسة العمومية كلّ سنة ليجد الكثير نفسه في فم فضاءات الابتزاز ولا فرق بين التعليم الخاص المحكوم برأس المال أو الفضاءات الدينية غير المراقبة المحكومة برأس الداعشي.

وبفضل النّهب المنظّم تحت مسمّيات عديدة تحوّلت كثير من الفضاءات المدرسيّة في ظلّ إهمال الصّيانة والتّجديد إلى " خِرَب " تتهاوى أسقفها ولا يجد فيها التّلميذ أيّ راحة ولا متعة وهو أحد دواعي عنفه الشديد وكرهه للدراسة، وبسبب التسييس وفرض التبرع المسيّس للصناديق نشأت أجيال تصدّق وتصفّق للصوص وتعجز عن التفكير وتنساق وراء الوثوقيات والهويات القاتلة، وبسبب زحف الخوصصة الذي تزعّمته في السابق وفي مجال التعليم العالي "العائلة المالكة" انتشرت المؤسّسات الخاصّة واستقوت بالسّلطة وسعت إلى جلب التلاميذ بطرق متعدّدة أهمّها الشهادة مقابل المال.

مازال الماضي يحكم الحاضر، ومازال القديم يلوي عنق الجديد، وكان يفترض أن تحدث بعد الثورة ثورة هائلة في مجال التعليم ولكنّ قوى القديم وتجاذبات سياسية عنيفة أوقفت عمليّة الإصلاح ( كما أوقفت الصّراعات الهووية المفتعلة في كثير من الأحيان كلّ تقدّم حقيقي في مجالات كثيرة ) ولا أعتقد أنّ أحدا من الوزراء الذين مرّوا بالوزارة استطاع فتح ملفّات الفساد داخلها بالجسارة المطلوبة فالأمر يستوجب تغييرات جريئة وموجعة للأجهزة وللفاعلين فيها وفق رؤية وطنيّة حقيقيّة.

والآن، وأنا في انتظار الانتهاء من خساراتي الجديدة ( الاقتطاع عن إضراب السنة الفارطة متى ينتهي ومتى يبدأ الاقتطاع الجديد؟ ) أشعر أنّ ما ندفعه من ثمن ضئيل أمام رهانات يجب أن نعلنها ونرفعها عاليا وأهمّها إنقاذ المدرسة العمومية من الانهيار وإنقاذ مائة ألف تلميذ كلّ سنة يغادرون مقاعد الدراسة وجلّهم من أبناء الفئات المهمّشة وإنقاذ الأستاذ من النهش الإعلامي اليومي ونهش الرّأي العام الذي يصنع الإعلام وعيه المزيّف، وأيضا إنقاذ الأستاذ من نفسه بعد أن فقد إيمانه بدوره وصار يحاول أن يكون.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات