لماذا تستمرّ أزمة الثانوي؟ من يملك الحلّ؟ من يمنع الحلّ؟ من سيستفيد ممّا يحدث؟

Photo

الحكومة: هل تملك الحلّ؟

ببساطة لا. ليس رغبة منها بل عجزا. لو كان الأمر بيد الشاهد لاستجاب وبذل ما يملك وما لا يملك، لا طيبة ووطنية طبعا، بل ببساطة ليستمرّ في مداعبة حلم السلطة الذي يبدو له مشرعا في ظل فراغ سياسي يسيل لعابه.. وسخفه.

الشاهد المندفع نحو حكم متاح لا يستطيع أن يحقق مطالب نقابة الثانوي الرئيسية الثلاثة. لأنه لو استجاب للنقابة وقبل بمطلب التقاعد في سنّ 57 عاما سيعمّق نهائيا أزمة الصناديق الاجتماعية (رغم تمسّك الطرف النقابي بأن الكلفة المالية لهذا المطلب غير عالية لأن المعنيّين بها محدودي العدد)، أزمة تهدّد بالانفجار بين لحظة وأخرى في وجه المجتمع بإعلان عجز هذه الصناديق النهائي عن الإيفاء بالتزاماتها إزاء منخرطيها والوقف عن دفع منح التقاعد والشيخوخة وتكاليف العلاج.

لن تستطيع أية حكومة قادمة القفز على إجراء الترفيع في سن التقاعد إلى 62 عاما على الأقلّ، وسينهي الشاهد مستقبله السياسي قبل أن يبدأ إن هو أقدم على الاستجابة لمطلب النقابة هذا في سير عكسي لما هو مطالب بالبدء فيه من إصلاحات كبرى موجعة، ويمكن أن تكون قاتلة أيضا.

لن يرفّع الشاهد في قيمة المنحة الخصوصية للأساتذة لأن مموّليه يمنعونه من هذا. حتى لو ذهب بعيدا في المخاتلة وقبل بتقسيطها على ثلاث سنوات لإنقاذ النقابة وحفظ ماء وجهها الذي لا يحبّه طبعا، لن يسمح له مموّلوه الذين يبذل الآن جهدا مضنيا لإقناعهم بمساعدته على عبور العقبة النهائية لبسط سلطته على دواليب الحكم.

لن يفتح الشاهد ملفّ الإصلاح التربوي وهو المطلب الثالث للنقابة (وهو في الحقيقة مطلب للتعمية) لأنه لا يملك فيه رؤية أوّلا، وثانيا والأهمّ أنه لا يجرؤ على إغضاب حليفته النهضة التي تعتبر نفسها معنية وجوديا بملف مضمون الإصلاح التربوي. رغما، نقول رغما عن أن النقابة تراجعت عن هذا المطلب وحيّنته تحت عنوان إصلاح وضع المؤسسات التربوية في حركة بهلوانية ليست رشيقة بالمرّة.

* السبسي والنداء:

لن تسمح فلول نداء تونس التي تمسك برئاسة الدولة وبثلث الحكومة للشاهد بترف الوصول إلى انتخابات 2019 وهو مدجّج بانتصار سياسي كبير متمثّلا في اتفاق تاريخي مع اتحاد الشغل ومع نقابة الثانوي تحديدا. لذلك من غير المستبعد أبدا أن يكون النداء وراء سياسة التعفين والمماطلة واللامبالاة والبرودة المخزية التي يبديها الوزير القديم إزاء أزمة يعرف الجميع أن تداعياتها قد تتجاوز حسابات الجميع.

لو كان للسبسي مصلحة في حلّ الأزمة لفعل، ولكنه لا يخفي أبدا انه سعيد باستمرار المأزق في انتظار إيجاد صيغة لإزاحة الشاهد قبل انتخابات 19. صيغة يبدو أنها تنضج تدريجيّا بعد "عودة الرشد" لحركة النهضة وتراجعها عن الدعم المطلق للشاهد. ناور السبسي بملفّ الجهاز السري ليجبر النهضة على مراجعة ما انتوته من تحالف مع الشاهد، تحالف بدأته بالتصويت له في البرلمان وتثبيته رئيسا للحكومة ضد رغبة النداء ورئيسه. ولن ينسى التونسيون مشهد قيادات النداء في مقدمة فعاليات الإضراب العام في حركة قميئة أضرّت بالرمزية الأخلاقية للاتحاد.

* النهضة:

هي الحاضر الغائب في المعركة المحتدمة الآن. لذلك تخفي رأسها في الرمل.. وتنتظر. في الأثناء يهمها أكثر أن تستعيد تحالفها مع الباجي مع جهل انهيار الشاهد بأقلّ خسائر ممكنة... تريده انهيارا بلا صوت انهيار.. ولا ركامن وهو أمر يبدو عسيرا طبعا.

* اتحاد الشغل:

يدرك تماما ضعف الشاهد والحصار الذي يتعرّض له من حزبه الأمّ، ويدرك أكثر رغبته المرضيّة في البقاء في الحكم، لذلك يصعّد حربه المطلبية ضدّه. لكنّه يفعل وهو يدرك تماما أنّ أيّ خطأ في التقدير سينتهي إلى كارثة على الجميع وعليه هو بالقدر الأكبر. لذلك انتقل الاتحاد من المطالبة الصريحة بإقالة الشاهد حتى انتهى إلى تعطيل وثيقة قرطاج متحالفا موضوعيا مع النداء والسبسي، قبل أن يعدّل قليلا من جذريته إزاء الشاهد لإدراكه أنه أصبح عصا النداء والسبسي لإسقاط الشاهد.

ولكنّه لم يستمرّ طويلا في تهدئته بعد أن دفعته مكوّناته اليسارية الجبهوية إلى التجذّر في مطلبيّته ولكن لأهداف أخرى غير أهداف النداء والسبسي. الاتحاد حاليا متأرجح بين استقلالية سياسية بوّأته مكانة مركزية في المشهد الوطني التونسي عبر كل تاريخه، والتمادي في لعب دور سياسي يظنّ بعض قياديّيه الحمقى الحاليين أنه عليه أن يلعبه ويتقدّم نحوه للحلول محل النداء المنحلّ والكيانات السياسية الصغير الأخرى التي لا تقوى على منافسة النهضة.

وكم تبدو تلويحات قياداته بالتقدّم إلى الانتخابات القادمة هزلية لكشفها عن ضحالة مزرية في فهم طبيعة المشهد السياسي، إذ لو تقدّم الاتحاد إلى الانتخابات بقائمات منفردة فسيدق المسمار الأوّل في نعشه حتما. سينفض من حوله منخرطوه المتحزبون والمستقلون على حد سواء.

* الجبهة الشعبية:

تنظر إلى معركة الاتحاد (ونقابة الثانوي أساسا) والحكومة الحالية على أنها معركة مصيرها هي. لم تعد الجبهة ترضى بدور الكومبارس في المشهد السياسي. ولن يرضيها مستقبلا الحضور الشكلي في برلمان أغلبيته نهضوية وندائية (في نسخته القديمة أو الشاهدية إن كتب لها البقاء)، وهي تدرك تماما أن هزم النهضة انتخابيا ليس متاحا بعد، لذلك تفضّل الآن عدم الوصول إلى انتخابات 19 وتعمل على توفير شروط تأجيلها (والتأجيل يعني الإلغاء في السياق الحالي).

وهي رغبة تلتقي فيها موضوعيا مع النداء المنهار واليائس حتى الآن، الأمر الذي دفعها إلى التنسيق الميداني المكثّف معه في ملفّ الجهاز السرّي (غرفة الوثائق في الرئاسة وربما أروقة المخابرات الأجنبية) مع علمها بأن السبسي يناور بالملف ومستعدّ لسحبه منها بمجرّد وصوله إلى اتفاق جديد مع النهضة، وهو أمر غير مستبعد أن يحدث قريبا. لذلك تتمسّك هي بدورها بورقتها القوية الوحيدة في إثارة غبار كثيف في ارض المعركة للتسلّل إلى المشهد القادم بتصعيد المطلبية الاجتماعية وتوظيف حضورها الحقيقي والقوي في هياكل الاتحاد والثانوي أساسا.

قطاع الثانوي:

جامعة الثانوي:

قيادة مسيّسة للنخاع. ورغم انقسامها الايديولوجي المعلن (والذي ينتمي لعصر قديم) والذي يعرفه النقابيون الحركيّون، فهي تنجح في الحفاظ على وحدة رؤيتها لإدارة معركتها مع الوزارة بدرجة أولى ومع الحكومة في حقيقة الأمر ومع المركزية النقابية بدرجة أقلّ. تستمدّ جامعة الثانوي قوّتها من عاملين:


*الأوّل اضطرار الأساتذة في عمومهم إلى التمسّك بوحدة هيكلهم النقابي ومنظمتهم اتحاد الشغل كمكسب تنظيمي لو أنه ينهار لأي سبب سيجد الأساتذة أنفسهم في عراء السياسة.

*الثاني تمتّعهم بسند سياسي من طرف عائلاتهم السياسية المنخرطة في معركة مصير، والأهمّ اغتنامهم لظرف الصراع المعلن والمفتوح بين شقوق منظومة الحكم المتناحرة.

ولكنهم في حمأة مراهنتهم على أهدافهم السياسية، يستهينون بحجم الدمار الذي يحدثونه في مصداقية المنظمة النقابية وفي جدوى العمل النقابي ومستقبله، وفي القيمة الاعتبارية الأخلاقية للأساتذة، والأهمّ في دور المنظومة التربوية برمّتها في إنتاج المعرفة وتجديد المجتمع وإدماجه في تاريخ العالم. هذه القيادة المسيّسة حدّ التهريج توشك أن تنتهي انتحارية مضحّية بكلّ شيء.

* جمهور الأساتذة: منقسم في العمق بين:

- فئة تنظر لأزمة الثانوي من زاوية مطلبية مادية بحتة وتبحث عن تحسين قدرتها الشرائية المنهارة فعلا خصوصا بعد أن "غنمت" قطاعات أخرى كثيرة زيادات مجزية مستغلة هشاشة المرحلة الانتقالية. هذه الفئة في عمومها لا تملك وعيا سياسيا كليا وتتحدث لغة "قطاعوية" تبسيطية فجّة.

- فئات مسيّسة لا تتورّع عن خدمة أهداف أحزابها بغض النظر عن الثمن الذي تدفعه المنظومة التربوية من انهيار قيمة التعليم في وعي التلامذة وفقدان كل مكوّنات المنظومة التعليمية لرمزيّتهم الأخلاقية في ضمير المجتمع. وهي فئات تردد خطابا نقابيا تصرّ على وصفه ب"النضالي" يكرّر شعارات غير سياقية مستدعاة من زمن الدكتاتورية متناسية أن مفردات المعركة تغيّرت فعلا.

- فئة ضئيلة جدّا من الأساتذة تعتقد في ضرورة المحافظة على منظمة اتحاد الشغل كضمانة استراتيجية لحماية المجتمع من أي فراغ تنظيمي ممكن في ظلّ التوحّش الرأسمالي المنفلت.

* التلامذة:

في عمومهم ذاهلون عمّا يجري. نسبة كبيرة منهم يستمرؤون العطالة المدرسية ولا يدركون تبعات ما يجري. نسبة المتميّزين منهم تضرّر تكوينهم ممّا حدث ولن يستطيعوا التدارك. نسبة أخرى مسيّسة وتدعم نقابة الثانوي للضغط على الحكومة.

الخطير أنهم قد يفقدون ارتباطهم المعنوي بالمدرسة ويطرحونها من حسابات حياتهم. والأخطر أنّ لا أحد من أطراف العملية التربوية اليوم قادر على التوجّه بأي خطاب إلى التلاميذ. الجميع يشعر بالخزي أمامهم. الجميع فقد الحقّ في توجيههم ومطالبتهم بأي شيء.

بسبب كلّ هذا،

تتجه الأزمة الحالية إلى التعقّد والانفجار في وجه الجميع. كلّ "الحلول " ستكون أكثر كلفة على الجميع من أي مكسب سياسي جزئي قد يحقّقه هذا الطرف او ذاك.

حديث التداعيات يتطلب تفصيلا آخر.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات