بين سلطة الإكراه وسلطة الإرادة ... أو في شروط التحرر

Photo

إنّ قراءة الأحداث السياسية في تونس لا يُمكن أن تكون بمعزل عن تحليل بنية السلطة "للدولة الوطنية الحديثة" في علاقتها بإشكالية التغيير الاجتماعي وقضية الإنسان وفعله الاجتماعي والسياسي.

من خلال التدقيق في تاريخ تونس المُعاصر نلاحظ أنّه كلّما تمكّنت جماعة مخصوصة من فرض سيادتها في المجتمع، تجلّت تلك السيادة في نقطتين: السيطرة والقيادة. إذ هي، من جهة أولى، تُمارس سيطرتها على الجماعات المُعارضة لها بهدف إقصائها أو إخضاعها، مُستعملة أدوات مُختلفة تصل إلى حدّ استعمال قوّة السلاح (كما فعل بورقيبة مع اليوسفيين وبن علي مع الإسلاميين). ومن جهة ثانية، تعمل على قيادة الجماعات القريبة منها والهيمنة على الجماعات الحليفة لها بفرض نمطها المُجتمعي (الثقافي والأخلاقي والقيمي).

وتحكم الجماعة السائدة المُجتمع بواسطة أجهزة الدولة، حيث أنّ الدولة في الأنظمة الديكتاتورية تمثّل كلّ شيء، أمّا المُجتمع المدني فيبدو ضعيفا ومائعا. فالسلطة في هذه الحالة تتحدّد بالقيمة الحاسمة للقوّة والسيطرة والعنف الذي تُمارسه أجهزة الإكراه في المُجتمع السياسي، بينما الهيمنة تظهر في درجة الرضا داخل المُجتمع المدني الذي يبدو ضعيفا وخانعا أمام تصوّرات وأيديولوجيات مُثقّفي الطبقة السائدة.

قد تكتفي الدولة، في ممارسة سلطتها، باستعمال الأجهزة الإكراهية للمُجتمع السياسي، فتعتمد في عملية إعادة إنتاج سيادتها على القوة والضغط والإكراه أو التدخّل البوليسي أي بممارسة - العنف الشرعي للدولة-، وتتحوّل إلى جهاز يمتلك قوّة هائلة لا يكتفي بمُراقبة أشكال الحياة الجماعية العمومية للناس، بل يتعدّى ذلك ويقوم بمُراقبة حياتهم الفردية والخصوصية في أدقّ تفاصيلها (نظام بن علي البوليسي).

وأحيانا تحصل الدولة على رضا "المحكومين" وتظفر باعترافهم بشرعية استبدادها وتسلّطها من خلال هيمنة أجهزتها الأيديولوجية (الثقافية والإعلامية والدينية) التي تبرّر العُنف وتُشرّع التسلّط بتعلّة مُحاربة "الإرهاب" أو حماية "المصالح العامة" أو توفير الأمن.

فخصوصية بنية السلطة في نظام ديمقراطي (هشّ) وبرلماني (مُشوّش) ورأسمالي (مُتوحّش)، تكمن في أنّه يربط في ذات الوقت بين أجهزة الإكراه (البوليس) وأجهزة الأيديولوجيا (من المُثقّفين والإعلاميين ورجال الدين). فإذا اهتزّ ركن الإكراه خاصة أثناء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، برز للعيان "حصنا" منيعا من المُتخندقين حول أجهزة الدولة ومؤسّساتها، يمتدّ هذا الخندق من وسائل الإعلام لينتهي عند مؤسّسات الإبداع الفكري والفني مرورا بالجامعات والمؤسّسات الدينية.

لذا، لم تكن الدولة في تونس منذ عهد الاستقلال إلى مرحلة ثورة 17-14، سوى جهاز إكراه تتمترس خلفه سلاسل من الخنادق والتحصينات "الثقافية والأيديولوجية" التي تسنده وتدعمه وتُناشده وتُبرّر بطشه وتُفتي بجواز تنكيله بالجماعات المُعارضة.

مارست الدولة الحديثة بنُسختيها (البورقيبية والنوفمبرية) سلطتها بواسطة العنف البوليسي، وبواسطة السجون والمنافي والاغتيالات والتصفيات الجسدية، وكذلك بواسطة الإكراهات والضغوط الإدارية، كما مارست هيمنتها بواسطة نفوذها الثقافي على مؤسّسات صناعة الأخلاق والقيم (المدرسة والجامعة والسينما والمسرح والإعلام وخاصة التلفزة...).

ولذا ليس هناك من سبيل للتغيير الاجتماعي، والانتقال إلى نظام ديمُقراطي يحترم حُقوق المواطنين ويضمن حرّيتهم في التعبير والتنظّم، ولا مكان للحديث عن العدالة الاجتماعية، إلاّ بتفكيك بنية سلطة الدولة بمُقاومة أجهزة الإكراه البوليسي في مرحلة أولى، ثمّ دفع الناس للتحرّر - جماعات وأفرادًا- من الهيمنة الأيديولوجية لمُثقّفي وإعلاميي ورجال دين ورجال السياسة المُساندين والمُتحالفين مع الفئة السائدة اجتماعيا واقتصاديا.

غير أنّ ذلك يتطلّب، نظريا، فعلا واعيا وإرادة مُتفائلة، ذلك أنّ الإرادة الفاعلة للبشر وهي تنخرط في صناعة الواقع، تصنعه على مقاس وعيها وإرادتها، وكلّما كان الفعل مُطابقا للوعي كانت الحركة سريعة في تجاوز المراحل وتخطّيها، حيث أنّنا نكون أمام جماعات ذات إرادات مُتفائلة تفعل وتُراكم وتتفوّق وتتحوّل من واقع إلى واقع آخر.

أمّا حين يكون الفعل غير مُطابق للوعي تكون الحركة بطيئة ودائرية حيث نكون أمام جماعات ذات عقول مُتشائمة لا تُراكم ولا تتقدّم ولا تفعل. وهذه حالنا في تونس منذ لحظة 14 جانفي 2011 (لحظة سطو المُتحذلقين على الثورة)، وما نعيشه اليوم هو حصيلة ما أنتجته التفاعلات بين الإرادة المُتفائلة للجماهير من جهة والعقل المُتشائم للنخب من جهة أخرى. نعم ما نتج هو انتصار نزعة "التعقّل" و"الحكمة" فكان الارتداد نحو مربّعات الاستبداد والتواكل والسلبية والرضا بالأمر الواقع والاعتقاد في عدم القدرة على التغيير والعجز عن الإبداع في القيم والأخلاق والثقافة.

إنّ لحظة 17-14 كانت لحظة فعل ثوري مُتقدّم جدّا، إذ مثّلت احتجاجات الشباب المُعطّل وحركة الفئات المُهمّشة وضعٌ جامح تمكّن فيه الشّعب المغبون من التحليق عاليا، بفضل لحظة تفاؤل اخترقت إرادة شباب نخر اليأس كيانه فقرّر أن يرفع التحدّي ويدافع عن كرامته الفردية والجماعية، وأن يصونها فأبدع ممارسات احتجاجية واعية ومُتميّزة، واستطاع في لحظة تاريخية حاسمة أن يُخضع أجهزة بطش الدولة لإرادته، وجميعنا يذكر حين ارتفعت الحناجر مردّدة "الشعب يريد إسقاط النظام" كان رجع الصدى "يا توانسة بن علي هرب".

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات