المقامة الافريقية (الجزء الأول)

Photo

حدثنا الغر العبيط ، صاحب اللسان السليط قال: کنا صبية نتوهم الرجولة، ونخال قوة الضراط منتهی الفحولة..نلعق مخاطنا عند اشتداد البرد، ولنا من الوقار تماما کما للقرد...نسابق الرياح اذا عوت الکلاب ، وشأننا في ذلک کشأن بوغلاب...أسود وقت السلم علی کل حمامة، وعند الوغی في شجاعة النعامة ولما رأی القوم منا هذه الخصال ، أخذهم من فرط الغيرة داء عضال..فأطلقوا وراءنا الکثير من الوعيد ، وأطردوا منا کل فارس صنديد..

فجمعنا شمل عصبتنا الشقية ، وشققنا البحر سهلا صوب افريقية...حتی اذا استقر بنا بين اهلها المقام ، و سکرنا من کنيفها بأطيب مدام...عنٔ لنا أن نطوف في الديار ، ونسمع من ثقاتها مختصر الأخبار..فسرنا وراء الناس من نهج إلی زقاق ، حتی وصلنا باب مجلس النفاق...فهالنا ما رأينا من هيبة المکان ، ومضينا خلف بغل ونعجة وأتان..فخطبوا في القوم خطبة عصماء ، هاج لها الجميع بالنهيق والثغاء، واهتزت لها الأرداف بصالح الدعاء ، ما بين عجل ضارط وتمساح بکٔاء.‌ فقلنا تالله لقد جن ‌القوم ، وإن لم نفارقهم فقد حقّ علينا اللوم…

فانطلقنا نطلب الشفاعة وننشد إدراک صلاة الجماعة...فوصلنا بعد طول مسير أمام باب المسجد الکبير...فألفينا الناس في کرب صريح ، کبيرهم يبکي وصغيرهم يصيح...فاقتربنا لنعرف الإسباب، ونشارک الناس بعض الثواب...فإذا شيخ قد استوی في المحراب ، يبشّر الجمع بأصناف العذاب...عليه من ثياب الورع الشيء الکثير ، تماما کالتقيّ في رواية موليير…

قال لقد عزلت إمامکم الصعلوک ، الذي قام برهن المسجد للبنوک..کي يستفيد بقيمة القروض ، بدل أن يعلّم الناس النوافل والفروض...فحوقل القوم وقام له صبي ، وخاطبه قائلا أيها الدعي ، أجئت تستبله هؤلاء المساکين ، أم أنک تظننا نجهل القوانين ، أتقبل بنوکنا أن ترهن الجوامع ، وينشر الغسيل في أعلی الصوامع ... فأقبل البعض عليه ساخطين ، مسفهين رأيه وله منکرين…

فتسللنا خفية عن العيون ، مخافة أن نصاب بالجنون...واستعذنا سرا من الشيطان ومن غباء بعض بني الانسان...حتی اذا وصلنا أمام موکب عظيم ، عليه مظاهر الثراء والخير العميم..وجدنا شخصا بارع الکلام واللباقة ، يحدث عن العدالة مخاطبا ذوي الفاقة ، حتی ظننّاه من الفقراء ، لا يظفر من يومه بغداء ولا عشاء ...والناس يرمقونه بنظرة الأمل ، حتی أکمل کلامه ورأيناه نزل ، قلنا لابد أن نتبع خطاه ، إنا لنراه أمينا وحق الإلاه...فسرنا وراءه من نهج إلی حارة ، إلی أن توقف بباب الخمارة، ودخل متظاهرا الانشغال بالتلفون، کي لا يرد علی تحية الجرسون..فجلس إلی جمع عليهم مظاهر الثراء ، يروي لهم آخر نکتة عن الفقراء... فوالله مازدنا في تلک الربوع ، ولبثنا خارجها حتی کاد يهلکنا الجوع…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات