بَدْوَنَة الدولة، وتجفيف منابع الحداثة السياسة وتعميم الجهل بثقافة السوق وبناء الاقتصاد الوطني

1

نعيش فعلا "بَدْوَنةَ الدولة". فبعد عملية التجريف التي قام بها الانقلاب بهدم المؤسسات الرئيسية في الدولة (الحكومة، البرلمان، غلق الهيئات، تجاوز السلطة القضائية)، وتصحير ما بقي منها وأولها رئاسة الجمهورية التي فقدت وجهها المألوف واختُزلت في شخص قيس سعيّد الرافض للحوار والتواصل، والاكتفاء ببث رسائل مكرورة ومتشنّجة وبلا معنى واضح.

2

هذه الطبقة السياسية، وهي في جوهرها رئاسوية، كانت برّرت برّر تلحيسه للباجي بتمثّله التام اللدولة ولثقافتها، لم تعد قادرة على التعرف إلى مؤسسة رئاسة الجمهورية التي ألِفَتْها. وتجد نفسها في وضع خايب برشه وقد كانت تلحّ على مدنية الدولة والفصل بين السلطات ودولة القانون والمؤسسات، عندما فوّضت الانتخابات الحرة والديمقراطية خصومهم السياسيين. وتسكت اليوم عن جمع كل السلطات في يد الفرد العاجز بديلا عن المؤسسة الممثلة. وتقبل بإطلاق جدل واسع في موضوع الفساد وتغضّ الطرف عن السياق السياسي الذي يقارَب فيه ويتميز بدولة مشلولة بلا حكومة وبلا برلمان تسيّر بمراسيم يطلقها رئيس الدولة حسب هواه، وحسب ما يستوعبه من محيطه الغامض.

3

كنت نسمع في موزاييك في حوار بين الكورنيكورات حول موضوع الحديد والكميّة المحتجزة وموقف وزارة التجارة والشرطة الاقتصادية وكلام رئيس الجمهورية. ومن بين ما قيل: إنّه لا بدّ من سماع رأي الوزارة وأنّه إذا ثبت اتفاق منتجي الحديد على عدم تزويد السوق بالكميات اللازمة فإنّه لا بدّ من محاكمة هؤلاء على جريمتهم هذه، ويحاكمون باسم القانون كما قال رئيس الجمهورية !!

بالله أناهو قانون؟

الرجل علّق العمل بالدستور عمليا، وأقال الحكومة، ويرفس في مواضيع الانتاج والاقتصاد والترويج في رفس شعبوي يحشّم قدام العالم. ويبثّ خطابا أميريّا لا يخفّف موضوعُ محاربة الفساد من تهافته وبدائيّته وآثاره الكارثية على الاقتصاد والاستثمار في مرحلة من أحلك ما عرفت بلادنا.

4

قرأتُ لبعض التنويريين ممن يعلنون ضجرهم بسعيّد أنّهم سيؤيدونه لو حاكم فلاَن وعلاّن… ينسون حكم الفرد، وينسون أنّه لا محاكمة إلاّ في ظل قضاء عادل…ولم يتساءلوا منين ليه باش يحاكم؟ وهل هناك محاكم خارج نطاق القضاء؟

وكلامهم هذا يفضح حقيقتهم، وهو أنّهم لا علاقة لهم بالدولة وثقافتها، وكل ما انتهوا إليه من "الوعي السياسي المدني" هو رغبتهم بقيام سلطة تحاكم خصومهم الإيديولوجيين، وتلبّي نزواتهم المختلفة…

5

يبدو أنّ بورقيبة الذي تبنّى شعار "أنا الدولة" تأسيّا بلويس الرابع عشر (1655) هو نفسه غطّى على مساعديه فكرة الدولة فكانت تجربتهم معه تنفيذا لأوامره لا عملا مؤسّسِيًّا داخل الدولة…وهذا ما يفسّر اليوم تزكية بعض من حثالة مدرسته حُكْمَ الفرد الذي يمارسه قيس سعيّد ويتجه إلى تثبيته، بعد أن هدم كل ما بُني في سنوات الانتقال الديمقراطي..

6

نحن أمام عملية تخريب للدولة وتعطيل للاقتصاد والاستثمار والإنتاج في ظل شعبوية ضحلة ووظيفية رثّة وفاشيّة تجمعية تعبث جميعها بالدولة وبما بنته الديمقراطية من مؤسسات..وعاجزة عن المس بأسس الفساد الفعلية: نظام الرخص ومقوّمات اقتصاد الريع، والملكية الزراعية والعقارية، والثروات الوطنية…

هذا الوضع من السياسة البدائية القروسطية لا يملك عوامل البقاء…ولن يصمد شهورا معدودة..

هذه النخب البدائية المنتحلة للحداثة فرضت الحرب الأهلية الصامتة (رغم أنها كلامية) تحت سقف الديمقراطية ومنعت إثمارها هي نفسها اليوم تغطّي انتقالنا إلى حرب أهلية كلامية تحت سقف الانقلاب مرشحة لتصبح حربا أهلية فعلية أمام أوَل قادح…

نعيش الخطوات الأولى لبدونة الدولة وتجفيف منابع التحديث السياسي الديمقراطي وتصحير المجتمع برعاية ماما فرنسا ودولتها الدينية المتهاوية…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات