نقد فلسفة الدّين عند ماركس : مقدّمة يساريّة عقلانيّة وأنسنيّة

تعاليق حول مقدّمة ''مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل '' لكارل ماركس

تقديم :

هذه المقدّمة تركّز اهتمامها حصرا على ما كتبه كارل ماركس حول الدّين في مقدمته الشهيرة لمؤلّفه"مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل" سنة 1843. ورغم أن بعض الماركسيين يعتبرون أن تلك المقدّمة ليست سوى مرحلة من مراحل تفكير ماركس حول الدين ،وهو صحيح جزئيّا، الا أنّها حسب رأينا تحتوي على المخطّط الاجمالي لتصوّر ماركس الفلسفي حول الدّين الذي سيبقى، هو و فريديريك أنجلس ، وفيّين له حتى مماتهما.وما زاد تلك المقدّمة الشهيرة أهمّية هو ما يعرفه الكثير من العارفين بماركس من قوله الشهير "الدّين أفيون الشعوب" ،هذا القول التي 'ملأ الدنيا وشغل الناس' منذ أكثر من قرن ونصف الآن.في البداية سنقدّم المقتطفين الأساسيين المتعلقين بالدين من مقدّمة ماركس حتى يطّلع عليهما القارئ ثم سنقوم باختصار شديد جدّا بالتعليق على الوثيقة من وجهة نظرنا اليسارية العقلانية و الأنسنية.

القسم الأوّل - نصّ ماركس :

كتب ماركس :

" فيما يتعلق بألمانيا، لقد انتهى، من حيث الأساس، نقد الدين، ونقد الدين هو الشرط الممهد لكل نقد.

ان الوجود الدنيوي للخطأ غدا مشكوكا فيه، منذ ان أصبح دفاعه السماوي عن ذاته مفندا. فالإنسان الذي لم يجد في واقع السماء الوهمي، حيث كان يبحث عن الإنسان الأعلى ( السوبر مان )، الا انعكاسا او صورة لذاته، لن يكتفي بعد ذلك بأن لا يجد سوى مظهر ذاته وحسب، سوى اللانسان، وإنما يبحث هنا، وعليه ان يبحث بالضرورة، عن حقيقته الواقعة.

ان أساس النقد غير الديني هو : ان الإنسان يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان. يقينا ان الدين هو وعي الذات والشعور بالذات لدى الإنسان الذي لم يجد بعد ذاته, او الذي فقدها. لكن الإنسان ليس كائنا مجردا جاثما في مكان ما خارج العالم. الإنسان هو عالم الإنسان، الدولة، المجتمع. وهذه الدولة وهذا المجتمع ينتجان الدين، الوعي المقلوب للعالم، لأنهما بالذات عالم مقلوب. الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية، منطقه في صيغته الشعبية، موضع اعتزازه الروحي، حماسته، تكريسه الأخلاقي، تكملته الاحتفالية، عزاؤه وتبريره الشاملان. انه التحقيق الوهمي للكائن الإنساني، لان الكائن الإنساني لا يملك واقعا حقيقيا. إذن فالصراع ضد الدين هو بصورة غير مباشرة صراع ضد العالم الذي يؤلف الدين نكهته الروحية.

ان التعاسة الدينية هي، في شطر منها، تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما انه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. انه أفيون الشعب.

ان إلغاء الدين، من حيث هو سعادة وهمية للشعب، هو ما يتطلبه صنع سعادته الفعلية. ان تطلب تخلي الشعب عن الوهم حول وضعه هو تطلب التخلي عن وضع بحاجة الى وهم. فنقد الدين هو بداية نقد وادي الدموع الذي يؤلف الدين هالته العليا.

لقد نزع النقدُ عن السلاسل الزهور الوهمية التي كانت تغطيها، لا لكي يحمّل الإنسان قيودا غير مزخرفة، موئسة، بل ليقذف بالسلاسل بعيدا ويقطف الزهور الحية. ان نقد الدين يدمر أوهام الإنسان،لكي يفكر، يفعل، يكيف واقعه بصفته إنسانا تخلص من الأوهام وبلغ سن الرشد، لكي يدور حول نفسه، أي حول شمسه الواقعية. فالدين شمس وهمية تدور حول الإنسان مادام الإنسان لا يدور حول نفسه.

ان مهمة التاريخ إذن، بعد زوال عالم ما وراء الحقيقة، هي ان يقيم حقيقة هذا العالم. تلك هي بالدرجة الأولى مهمة الفلسفة، التي تخدم التاريخ وذلك بعد ان يجري نضح الشكل المقدس للاستلاب الذاتي للإنسان وينزع القناع عن الاستلاب الذاتي في إشكاله غير المقدسة. وبذلك يتحول نقد السماء الى نقد الأرض، نقد الدين الى نقد الحقوق ونقد اللاهوت الى نقد السياسة. "

(...)

لنخلص الى النتيجة الحاصلة :

ان تحرر المانيا الوحيد الممكن عمليا هو تحررها على أساس النظرية التي تنادي بأن الإنسان هو الكائن الأسمى للإنسان ذاته. في المانيا، الانعتاق من العصر الوسيط ليس ممكنا إلا إذا جرى في نفس الوقت الانعتاق من امتداداتها الجزئية. في المانيا، لا يمكن تحطيم اي شكل من أشكال العبودية إلا بتحطيم كل أشكال العبودية. ان المانيا، التي تغوص الى أعماق الأشياء، لا تستطيع ان تصنع ثورة دون ان تصنع الثورة التي تقلب كل شيء رأسا على عقب. ان انعتاق الألماني هو انعتاق الإنسان. ان رأس هذا الانعتاق هو الفلسفة، وقلبه هو البروليتاريا. ان الفلسفة لا يمكن ان تحقق الا بإلغاء البروليتاريا، البروليتاريا لا يمكن ان تلغي ذاتها الا بتحقيق الفلسفة. عندما تتوفر كل الشروط، فأن فجر البعث الألماني سيعلن عنه صياح الديك الغالي ( الفرنسي)."

انتهى الاقتباس من ماركس .

القسم الثاني- تعاليق على النصّ : مقدّمة في نقد فلسفة الدّين عند ماركس

1-

على هدي ادوارد سعيد ،مثلا ، يمكن البدء بنقد فكرة كون نقد الدين ،الذي هو 'اساس كل نقد 'حسب ماركس، قد انتهى بالأساس في ألمانيا . و يمكن القول انه من غير المعقول فلسفيّا وعلميا استنتاج ذلك بدليل كون الدين المسيحي واصل و لا يزال تأثيره في ألمانيا ،بما في ذلك في نخبتها، وبدليل كون الدراسات الفلسفية والعلمية الألمانية للظاهرة الدينية لم تتوقّف هناك بل تطوّرت بعد ذلك كيفا وكمّا كما لم يتوقّعه ماركس مطلقا. وهذا ان دلّ على شيء فانّما يدلّ على التسرّع الذي عالج به ماركس المسألة. ولكن ليس هذا التسرّع هو المهمّ الآن.انّ المهمّ هو أن ننتبه أنّ ما نلحظه من اقرار لما يسمى 'نهاية النقد' الفلسفي للدين في ألمانيا عند ماركس هو نفسه موقف فلسفيّ يوهم بامتلاك الحقيقة الفلسفية النهائية حول الدّين بسبب امتلاك الحقيقة الفلسفية العامّة النهائية نفسها.

وقد عبّر أنجلس عن ذلك لاحقا بعنوان كتابه "فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" في خصوص ألمانيا ، و عبّر بمحتواه وبمحتويات كتب أخرى أهمّها "أنتي دوهرينغ" عن فكرة "نهاية الفلسفة" بحيث قدّم الماركسية كفلسفة أخيرة سينتهي معها تاريخ الفلسفة مثلما سينتهي مع الشيوعية التاريخ. وهذه الأفكار هي في الواقع فخاخ' نهاية التاريخ' الهيغلية التي وقعت فيها الماركسية وأعطتها محتويات أخرى لاغير. وهي تؤدّي حتما الى اضرار بالفلسفة وتطوّرها بسبب توهمها امتلاك "علم أعمّ قوانين الطبيعة والمجتمع و الفكر" بحيث لم يعد هنالك ما يكتشف سوى ما هو جزئي من العلم الذي سيدعّم الفلسفة الماركسية مفهومة هنا بوصفها "علم العلوم" تماما ككل فلسفة علموية- وضعية رغم أصلها الفيورباخي -الهيغلي الألماني.

2-

تقدّم الفقرة الأولى من النّص فلسفة الدّين بطريقة خاصة .تبدأ الفقرة بفكرة "نقد الدّين" وتتوسّع في الحديث عن "الوجود الدنيوي للخطأ" و "الدفاع السماوي عنه" و عن "واقع السماء الوهمي" للانسان وعن " حقيقته الواقعة" الأرضيّة.

انّ هذا المدخل يجعل فلسفة الدين عند ماركس فلسفة نقديّة بامتياز .والمشكل ليس في وجود النقد في الفلسفة بل في مكانته فيها ، وليس في وجود النقد ذاته بل في محتواه ؛ موضوعا ومنهجا وهدفا.

انّ الفلسفة ليست نقدا فقط بل هي دراسة عقلية للطبيعة و للمجتمع و للفكر يمثل النقد فيها جزءا لا غير وان كان هامّا في جانبه الاجتماعي والفكري. وان اختزال فلسفة الدين في نقد الدين يعتبر اختزالا للفلسفة في النقد مما يسيء اليها باختزال موضوعها و منهجها وهدفها.

وانّ اختزال فلسفة الدين تحديدا في النقد يرتكب الخطأ الاختزالي العام المذكور أعلاه ثم ،عندما يخصّ الدين، يختلف مثلا عن كل فلسفات ماركس الفرعية الأخرى، كفلسفة العلم و القانون و الأخلاق والفنّ... ، حيث لا يختزل ماركس فلسفاته تلك في وظيفة النقد وان احتوتها طبعا. لا يوجد في أي نص لماركس أو أنجلس أو أي ماركسي آخر تعريف لفلسفة الطبيعة بكونها 'نقد للطبيعة' و لا لفلسفة المجتمع بكونها 'نقد للمجتمع' و لا لفلسفة الفكر ( العلم ،القانون ،الأخلاق،الفن...) بكونها نقد للفكر بالشكل الحصري الذي عبّر عنه ماركس هنا في خصوص الدّين.و هذا ما يسمح لنا بوصف فلسفة الدين عند ماركس بأنّها فلسفة اختزالوية- نقدويّة وليس نقديّة لأنها تختزل التفكير العقلي الفلسفي في الدين في عملية نقده فحسب عكس ما تفعله مع كل ما يسميه ماركس أشكال الوعي الاجتماعي الأخرى. وان اختزال عمل الفلسفة في النقد يهدد دائما بتحويل ذلك النقد من عمل فلسفي -جدالي الى عمل فلسفي-سجالي حتما لأنّه سيهمل حتما ما لا يكون موضوعا للنقد في الظاهرة ،و هذا ما سنوضّحه في هذه المقدّمة ونوضح نتائجه الفلسفية و الاجتماعية باختصار.

3-

في نفس الفقرة الأولى التي تذكر مصطلحات الخطأ والوهم و الحقيقة و الواقعية -و هي المصطلحات التي تحيل الى العلم ومبحث الحقيقة والخطأ فيه- نعثر على مصطلحات 'السماوي' و' الأرضي' و "الانسان الأعلى" في اشارة الى الله في الأديان التوحيدية الذي هو عند ماركس "اللاانسان" أو 'الانسان مقلوبا' ان شئنا.

انّ هذه الفكرة تحيلنا الى فكرتين أساسيتين في نقد فلسفة الدين عند ماركس: الأولى تتمثل في هيغلية ماركس المقلوبة مع مواصلة ما هو جوهري عند هيغل :التقسيم الأنطولوجي -الطوابقي الى طابقين أرضي وسماوي. وهذه الفكرة هي مواصلة في ردّ الفعل على المسيحية-وفي أقصى الحالات باقي الديانات التوحيدية- التي تأثر بها هيغل ولم يقم ماركس 'سوى' بقلبها، وسوى الحصر هنا تتعلق بالمبدأ والمنهج و النسق الفلسفي وليس بالتفاصيل الثرية فعلا.أما الفكرة الثانية ، التي تنبع من الأولى، فهي أن فلسفة ماركس الدينية هنا لا تنطبق ابدا على بعض أديان الشرق الآسيوي التي لا تعرف الاله أصلا ويمكن اعتبارها "ديانات ملحدة " -قياسا الى الديانات التوحيدية- وهي لا تحتوي على عناصر ميتافيزيقية كثيرة -قياساالى الديانات التوحيدية- وهي بذلك أقرب الى الحكمة والفلسفة الشعبيتين وتعتبر مع ذلك من أكبر الديانات العالمية مثل ما هو الأمر في البوذية و الكونفشيوسية خاصة.

وهنا لا بدّ من تسجيل أمرين اذن : ان فلسفة الدين عند ماركس هي فلسفة هيغلية مقلوبة وبالتالي هي فلسفة أوروبية ناقدة للمسيحية (و باقي الديانات التوحيدية بالنتيجة) بالأساس ، وهذا ما يجعلها سجالا مزدوجا مع هيغل ومع الدين المسيحي تحديدا و هو ما لا يجعلها لا فلسفة دين عقلانية-جدالية من ناحية ولا فلسفة دين عالمية من ناحية ثانية.

4-

في الفقرة الموالية التي تتركّز حول 'النقد غير الديني ' الذي يعتبر " الانسان يصنع الدين وليس الدين هو الذي يصنع الانسان " و ما يليه نلاحظ هنا ما يلي :

فكرة الصنع هنا هي نفسها فكرة مأخوذة عن الدين ومقلوبة سجاليا لا غير. وهي بالمناسبة فكرة أنطولوجية-سببية-زمنية توجد في ما يسمى "المسألة الأساسية في الفلسفة" كما سماها أنجلس في "فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية".ونتيجة هذه الفكرة ، التي تريد أن تقول أن ليس الله هو الذي خلق الانسان على صورته بل الانسان هو الذي خلق الله على صورته المقلوبة (اللاانسان) ، تؤدّي الى استنتاج سجالي أحادي يعترف بكون الانسان يصنع الدين و لكنّه يرفض كون الدين يصنع الانسان، بدليل كون ماركس يقبل في مواضع أخرى من فلسفته ، مثلا ، كون الانسان 'يصنع' الاقتصاد والاقتصاد نفسه 'يصنع' الانسان، أو يعيد صنعه ان شئنا. بل ان ماركس يعترف في مناسبات أخرى -قليلة- وأنجلس يعترف بذلك متأخرا- في رسائله الأخيرة حول المادية التاريخية- كون الوعي الاجتماعي يساهم بدوره في ما نعبر عنه هنا بعبارة 'صنع الانسان'.

انّ هذه الفكرة ، السجالية من ناحية و الأحادية من ناحية ثانية، تجعل فلسفة الدين عند ماركس فلسفة لا تعترف بمساهمة الدين في أنسنة الانسان لأنها تريد بذلك سجاليا رفض فكرة أن الله هو الذي خلق الانسان. وهذه الفكرة لا علاقة لها بالأنتروبولوجيا عموما وبالأنتروبولوجيا الدينية خصوصا حيث تفيد كل الدراسات الحديثة والمعاصرة أن الدين لعب -ولا يزال يمكنه أن يلعب - بطريقته دورا في أنسنة الانسان بمعنيي الأنسنة الكلاسيكيين في علم الانسان : التحول 'من الحيوانية الى الانسانية' و الارتقاء 'من البربرية الى الحضارة ' .

5-

وفي نفس الفقرة يواصل ماركس انكار دور الدين الايجابي الممكن من خلال تصور عن المجتمع و الدولة سيصبح -علميا- غريبا حتى عن الماركسية لاحقا ولكنه سيبقى داخلها فلسفيّا-سجاليّا مع الاسف. فماركس هنا يقول أن " الإنسان ليس كائنا مجردا جاثما في مكان ما خارج العالم. الإنسان هو عالم الإنسان، الدولة، المجتمع. وهذه الدولة وهذا المجتمع ينتجان الدين، الوعي المقلوب للعالم، لأنهما بالذات عالم مقلوب." وهو يتجاهل هنا -أو ربما يجهل وقتها- أن ما يسميه هو نفسه لاحقا "الشيوعية البدائية" لم تكن بها دولة ولم يكن فيها المجتمع منقسما الى طبقات ، ومع ذلك "صنع الانسان" الدين فيها وقتها.

ومن ناحية ثانية، يمكن اعتبار الحكم الصادر هنا عن العلاقة بين الدين و الدولة و المجتمع ،اضافة الى جهله التاريخي، مخالفا لكل مراحل النضال السياسي ضد الدولة وضد المجتمع بوعي ديني يهدف الى تحسين ظروف العيش الاجتماعية وعلاقات السلطة السياسية . وان هذه الفكرة تناقض حتى ملاحظات ماركس وأنجلس اللاحقة حول دور الحركات الشعبية الدينية التي وصل الأمر بانجلس حولها الى اعتبار المسيحية الأولى شيوعية قديمة ،هذا ناهيك عن تحليله لدور طوماس مونز تحديدا في كتابه "حرب الفلاحين في ألمانيا"،الخ. ولكن المشكل سيعود دائما ،اذ برغم التحاليل الجزئية المصيبة علميا وسياسيا هنا و هناك فان النسق الفلسفي العام واصل في اعتبار الدين سلبيا بشكل عام ليس فقط اجتماعيا- سياسيا بل وحتى أنتروبولوجيا .

6-

أكثر من ذلك، في نفس الفقرة أعلاه يقول ماركس ما يناقض المحتوى العام للمقدّمة التي كتبها لكتابه 'نقد فلسفة الحق عند هيغل'. انّه يكتب أن " الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية، منطقه في صيغته الشعبية، موضع اعتزازه الروحي، حماسته، تكريسه الأخلاقي، تكملته الاحتفالية، عزاؤه وتبريره الشاملان. انه التحقيق الوهمي للكائن الإنساني، لان الكائن الإنساني لا يملك واقعا حقيقيا. إذن فالصراع ضد الدين هو بصورة غير مباشرة صراع ضد العالم الذي يؤلف الدين نكهته الروحية." . ولكن ماركس لا ينتبه الى أن هذه العناصر لا يمكن مقاربتها عبر مقولات "الخطأ" و "الحقيقة" و لا وصفها و اختزالها لاحقا في عبارة " الدين أفيون الشعوب".

انّه من غير الممكن أن يكون الدين "النظرية العامة لهذا العالم،خلاصته الموسوعية ،منطقه في صيغته الشعبية " ويكون كلّه "وعيا زائفا" و مع ذلك يصمد لعشرات القرون؛ لا يمكن أن يكون الدين ( و كلّ ما أنتجه أو أثر فيه من علم لاهوت وفلسفة و علم طبيعة و اقتصاد و اجتماع وسياسة وثقافة ) كلّه خاطئا وزائفا ، من ناحية. و من ناحية ثانية ، أنّ بعض هذه العناصر لا يجب تقييمها أصلا بمقياس الحقيقة والخطأ ؛ فحديث ماركس عن الدين بوصفه (بالنسبة الى العالم ) " حماسته، تكريسه الأخلاقي، تكملته الاحتفالية، عزاؤه و تبريره الشاملان" يفترض عدم الحكم على الدين بمنطق الحقيقة والخطأ لأن الحماسة والأخلاق والاحتفال و العزاء و التبرير مسائل يتشابك فيها المعرفي -الذي يخضع لمقياس الحقيقة والخطأ - مع الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي و النفسي و الأخلاقي و الجمالي حيث يصبح من العلموية-الوضعية الحكم بمقياس "الوعي الزائف" أو "الوهمي" أو "الخاطئ".

انه لا يمكن الحكم على كل شيء هنا بمقياس الخاطئ/الصحيح بل يجب الحكم بمنطق النافع/الضار،العادل/الظالم،الخير/الشرير،الجميل/القبيح ،الخ. وهذه الأشياء لم يكن فيها الدين دائما سلبيا .بل ان الجانب المعرفي منه أيضا لم يخالف دائما لا 'المعرفة الشعبية' الصحيحة أحيانا و لا حتى المعرفة العلمية الا عند من لهم تأويلات متحجرة للدين.وليس أكبر من دليل على ذلك كون كوبرنيك وديكارت وكانط ولا يبنيتز ونيوطن ولابلاس وغيرهم كثير كانوا جميعا مؤمنين . وليس كل مؤمن الآن يعادي المعرفة والعلم بالضرورة بحيث ليس التدين بالضرورة وعيا زائفا حتى معرفيا-علميّا.

وهكذا فان الاستنتاج أن الدّين هو " التحقيق الوهمي للكائن الإنساني، لان الكائن الإنساني لا يملك واقعا حقيقيا." يصبح مبالغة تحكم على الكل من خلال الجزء لأن الدين لا يفصل الانسان بالمطلق عن الواقع الحقيقي ,وان الاستنتاج كونه " إذن فالصراع ضد الدين هو بصورة غير مباشرة صراع ضد العالم الذي يؤلف الدين نكهته الروحية " لا يستقيم بالمطلق و لا ينطبق الا على فهم الدين الخاص الذي يبرّر بؤس ذلك العالم من خلال 'نكهته الروحية' الخاطئة الخاصّة.

7-

ومن باب استثمار الرجوع الى مسائل من نوع ' الحماسة، والتكريس الأخلاقي، والتكملة الاحتفالية، و العزاء و التبرير" الذي يمارسه الدّين -بالمطلق - حسب ماركس ، يجب الانتباه الى ما يلي : في الواقع ،هنالك مشكل كبير في الماركسية ناتج عن استعمال مقولة ضرورة "تطابق الواقع و الوعي" بحيث يكون "الوعي الاجتماعي" زائفا أن لم يقل الحقيقة التي تطابق الواقع . والمشكل هنا ،ودون الدخول في نقاش المسالة في بعدها الابستيمولوجي، هو في تطبيق هذا المقياس -العلمي- مثلا على القانون والأخلاق و الفن أيضا. وهنا يمكن القول :

أ- ان الفلسفة الماركسية توسّع كثيرا في ميدان الحقيقة/الخطأ على حساب ميداني الخير/الشر في الأخلاق و الجمال/القبح في الفنّ مثلا مما ينتج عن ذلك، بسبب الطابع العلموي ، سوء فهم لخصوصية ميادين ما يسمى "الوعي الاجتماعي" من ناحية ،وهذا لم يلاحظ كثيرا عند ماركس -أنجلس (رغم وجوده عند الأخير خاصة) ولكنه تطور عند لينين (في تقييمه لأدباء روس كتولستوي وحتى غوركي -أنظر كتابه 'نصوص حول الموقف من الدين') رغم انتباهه لخطر التطرف الثقافي عند رفضه لما يسمى تيار 'البرويلكولت ' الذي ظهر في بداية الثورة الروسية، ولكنّه تطوّر أكثر في عهد ستالين مع الجدانوفية الثقافية.

ب- ان الماركسية وهي توسع كثيرا من استعمال مقياس الحقيقة والخطأ وتطبقه على كل شكل من أشكال الوعي الاجتماعي تقترف خطئين كبيرن هما : الأول: تجاهل ما هو أنتروبولوجي (اناسي) مشترك بين البشر بسبب نقدها لأنتروبولوجيا فيورباخ التقليدية الذي سحبته على أي تحليل أنتروبولوجي لاحق ...الا ما يتعلق بالمجتمع البدائي (أنجلس:أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة). والثاني: تجاهل ما هو قومي مشترك في المجتمع -اكتشفته لاحقا في القرن العشرين ولم تستنتج منه ما يجب استنتاجه معرفيّا- ويكون غير خاضع بشكل كلّي ومباشر للطبقات الاجتماعية مثل اللغة و بعض الخصائص النفسية والثقافية . وهنا لا بدّ من اشارة ثالثة.

ج- هنالك قواسم مشتركة بين الدين و الفن مثلا في المسائل النفسية الى الحدّ الذي يمكن أن نقول فيه ان 'بعض الدين فنّ' وانّ 'بعض الفنّ دين ' بالمعنى المجازي طبعا.ان المتعة الفنية تشبه في وجوه منها الاختمارة الدينية ، وهي بشكل ما تعتبر أيضا 'وعيا زائفا' اذا طبقنا عليها مقياس "الحقيقة والخطأ" العلمي . وان الصدق الفني لا يعني عدم اعتماد الكذب المعرفي كما يدل على ذلك معنى "أصدق الشعر أكذبه" العربي مثلا. وهنا، فان طريقة التعامل مع الصدق الفني و الجمال قد تفيد منهجيا - و لكن ليس مضمونيا وشكليا بالضرورة بسبب اختلاف الحقول- في اعادة قراءة الظاهرة الدينية بشرط الابتعاد طبعا عن 'التقييم الأفيوني للفنّ' عند بعض المبدعين و المتذوقين الفنّيين الذين لا يرونه سوى متعة دون فائدة أو،بلغة أخرى، يحصرون فائدته في متعته لا غير ، نازعين عن الفن دوره التثقيفي والتوعوي و التربوي .

8-

ونصل الآن الى فقرة 'أفيون الشعوب' الشهيرة حيث يكتب ماركس : " ان التعاسة الدينية هي، في شطر منها، تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما انه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. انه أفيون الشعب."

هنالك قراءتان لهذه الفقرة تتزاحمان عادة. قراءة سلبية مطلقة تختزل الدين سلبا في الأفيون يؤمن بها أعداء الماركسية وأنصارها المتشدّدون في نفس الوقت ، وأخرى تخفف من وطأة الأولى بذكر كون الدين به عنصر احتجاجي على الواقع ويناصرها أنصار الماركسية غير المتشدّدين وقرّاؤها الأكاديميون المعتدلون مثلا . ولكن في الواقع، يبقى التأويل الثاني أقرب الى روح الفقرة ولكنّه لا ينقذ الماركسية من تصوّرها الفلسفي- النسقي السلبي للدّين ، اذ أن الاحتجاج الديني على الواقع يبقى احتجاجا غير علمي وغير طبقي،وبالتالي زائفا، على بؤس العالم كما أن الأفيون رغم ما فيه من استعمال احتجاجي على الواقع الرّديء يبقى احتجاجا غير صحّي عليه وبالتالي يبقى احتجاجا ضارّا على واقع ضارّ. وانّ ما يؤكّد مصداقية قراءتنا هذه هو الفقرة الموالية مباشرة.

9-

كتب ماركس بعد ذلك مباشرة :" ان إلغاء الدين، من حيث هو سعادة وهمية للشعب، هو ما يتطلبه صنع سعادته الفعلية. ان تطلب تخلي الشعب عن الوهم حول وضعه هو أن تطلب التخلي عن وضع بحاجة الى وهم. فنقد الدين هو بداية نقد وادي الدموع الذي يؤلف الدين هالته العليا."

هنا ينتقل ماركس من نقد الدّين الى الغاء الدّين بوضوح. وهذا يدلّ على أن المبالغة في تنسيب حديث ماركس عن الجانب الاحتجاجي في الدّين لا ينفع رغم صدقيته. ان فلسفة الدين عند ماركس ليست فقط فلسفة نقدية للدين بل هي ايضا فلسفة الغائية له. ان الدين عند ماركس حتى لو وفّر سعادة للشعب فهي ليست سوى سعادة وهمية و يجب الغاؤه والغاؤها لصنع السعادة الفعلية.ولكن ماركس يضيف تدقيقا منهجيا هامّا ولكنه منهجي فحسب: يجب الغاء الواقع الذي ينتج الدين لالغاء الدّين ولا يجب البدء بالغاء الدين دون الشروع في الغاء ذلك الواقع نفسه. و هنا يتمايز ماركس ايجابيا مع بعض النزعات الالحادية البورجوازية -التي تريد الغاء الدين ولكن لا تريد الغاء الرأسمالية - و حتى مع بعض النزعات الاشتراكية الفوضوية -التي تبالغ في النضال الفكري ضد الدين على حساب النضال السياسي ضد الراسمالية نفسها. و هكذا يختلف ماركس فعلا عن النقد الالحادي البورجوازي للدين وحتى عن بعض أشكال النقد الاشتراكي له ولكن فقط منهجيا اذ يبقى الهدف المستقبلي عنده هو أيضا : الغاء الدّين.

و هنا يصبح المشكل في فلسفة الدّين الماركسية كما يلي : لم على الفلسفة الماركسية أن تلغي الدين دونا عن سواه من كل أشكال الوعي الاجتماعي؟

و الاجابة هي: لأن الماركسية تعتبر الدين دونا عن سواه من كل أشكال الوعي الاجتماعي بمثابة وعي زائف بكامله و لا ترى فيه سوى مخالفا للحقيقة العلمية و الاجتماعية بالمطلق. وهذا يعيدنا الى مباحث الحقيقة والخير و الجمال أعلاه ويدلّ على نزعة علموية -وضعية في الماركسية موروثة عن المزج بين نضالية الفلاسفة الماديين الفرنسيين الالحادية و الفلسفة الوضعية السان-سيمونية و الكونتية . هذا من الناحية الفكرية. أما من الناحية السياسية فانّ مشكل الماركسية الأكبر هنا،رغم اعلان ذلك باسم أنسنة الانسان، هو رفضها الاستراتيجي للحرّية الفكرية و الدينية لأنّها تعتبر نفسها الوحيدة الصحيحة و تعتبر الدين جوهريا وعيا زائفا بكامله .

10-

ففي بعض ما سبق من المقدّمة و في ما سيلي فقرتي " أفيون الشعوب" و "الغاء الدين" يدور حديث ماركس كلّه عن أنسنة الانسان من خلال تحريره من اغترابه الديني في العالم واغترابه عن نفسه وذلك مع تحريره من اغترابه الرأسمالي عموما حتى يدور حول نفسه بوصفه محورا ، وليس حول الله مثلا .

و قبل الحديث عن مسألة الأنسنة هذه ، نشير أن ما سيأتي من باقي الكلام يثير تساؤلات أخرى من أهمّها : تبويب تاريخي يبدأ بنقد الدّين ثم يضيف نقد الحق (من هنا 'يبدأ' نقد فلسفة الحق بعد انتهاء نقد الدين في ألمانيا) و الدولة و المجتمع .يكتب ماركس مثلا " ان مهمة التاريخ إذن، بعد زوال عالم ما وراء الحقيقة، هي ان يقيم حقيقة هذا العالم. تلك هي بالدرجة الأولى مهمة الفلسفة، التي تخدم التاريخ وذلك بعد ان يجري فضح الشكل المقدس للاستلاب الذاتي للإنسان وينزع القناع عن الاستلاب الذاتي في إشكاله غير المقدسة.

وبذلك يتحول نقد السماء الى نقد الأرض، نقد الدين الى نقد الحقوق ونقد اللاهوت الى نقد السياسة. " بحيث أنّ من يركّز في هذه الفقرة ويسترجع ما قاله ماركس في الجملة الأولى من انتهاء نقد الدين في ألمانيا بوصفه "أساس كلّ نقد" يمكنه أن يعود ويشكك في منهجية تمايز ماركس عن الالحادية الفوضوية خاصّة. فاذا كان نقد الأرض يجب أن يبدأ بعد أن ينتهي نقد السماء، اذا كان نقد الحق و السياسة و الاقتصاد يجب أن يبدأ بعد انتهاء نقد الدّين، فانّنا نعود القهقرى و لا نختلف منهجيا لا عن الالحاد البورجوازي و لا عن الالحاد الفوضوي ، ولنعد الى مسألة الأنسنة و الاغتراب الآن.

لا يرى ماركس في الأنسنة الا نقيضا للدين والتديّن .انّ أي ايمان ديني حسب ماركس يجعل الانسان حتما لا يدور 'حول نفسه' ، حول 'شمسه الواقعية ' لأنّ الدّين "شمس وهميّة تدور حول الانسان ما دام الانسان لا يدور حول نفسه" . وهو حسب رأيه مصدر "الاستلاب المقدّس" الذي يجب التخلص منه للمرور الى التخلص من "الاستلاب الذاتي في اشكاله غير المقدّسة. وبذلك يتحول نقد السماء الى نقد الأرض،نقد الدين الى نقد الحقوق و نقد اللاهوت الى نقد السياسة".

انّ ماركس هنا يستعمل طبعا التقسيم السماوي /الأرضي بين شمس الدين وشمس الانسان في اشارة واضحة الى كونه ينقد الدين وفي ذهنه الدين التوحيدي السماوي حيث الله في السماء و الانسان على الأرض. ولقد ذكرنا كون هذا قد لا ينطبق أصلا على ديانات أخرى غير سماوية هي بالمنطق التوحيدي "ديانات ملحدة". ولكن حتى في الديانات السماوية يمكن قول الأمر الأساسي التالي:

انّ كوبرنيك كان قسّا في الكنيسة البولونية وهو الذي قلب رؤيتنا للنظام الشمسي ورفض التصور الديني و الأرسطي السابق ومهّد بذلك لكل من الحداثة و من الأنسنة الحديثة. وان كثيرا من كبار العلماء في تاريخ البشرية الحديث و المعاصر مؤمنون بطريقتهم ويعتبرون أن "الروح القدس يدلّنا فقط على الطريق السائرة الى السماء و لكن لا يدلّنا على الطريق التي تسلكها السماء" . وان حركة الأنسنة الحديثة التي بدأت في أروبا مع النهضة الايطالية لم ترتبط حتما بالالحاد . بل ان الأنسنة عرفت طريقها الى الفكر البشري منذ القديم سواء في الفلسفة اليونانية أو العربية-الاسلامية دون أن يعني ذلك حتما الالحاد كما بين ذلك مثلا محمّد أركون في أطروحته "نزعة الأنسنة في الفكر العربي".

و في الفكر المعاصر ساهمت مجلة "اسبري" الفرنسية مثلا في تطوير نزعة الأنسنة دون ربطها بالالحاد حتما ، ولكن عبر تأويل أنسني للدين يستفيد من فكرة التكليف الالهي وخلافة الانسان في الأرض وتفضيل الله الانسان على كل خلقه بما في ذلك الملائكة وتمكينه من العقل الذي يميزه وتسخير الطبيعة له ،الخ. وان محرّري الاعلان العالمي لحقوق الانسان لم يكونوا كلهم ملاحدة ولكن شارك الوفد السوفياتي معهم في نقاشه وضمّنه مثلا فكرة "الملكية الجماعية" ثم رفض رفض التصويت له لاعتبارات أخرى كما انتقدته حركات التحرر الوطنية لآهماله ،جزئيا،المسألة الاستعمارية وهو ما أدّى ببعضها لاحقا لاصدار "الاعلان العالمي لحقوق الشعوب" سنة 1976 في العاصمة الجزائرية. .

انّ الأنسنة اذن لا ترتبط بالضرورة بالالحاد ولكنها في المقابل ترتبط حتما بالعقلانية وبالحرية ، وهي لذلك تتطلب من المؤمنين تبني تأويلات أنسنية للدين تسمح بالعقلنة و التحرّر . في المقابل، لا يعني الالحاد الأنسنة حتما بل قد يرتبط بأبشع الجرائم ضدّ الانسان كما حصل في كمبوديا في عهد الخمير الحمر. وان الأنسنة المدافعة عن العقلانية والحرية يمكن أن يتفق عليها اذن مؤمنون و لا أدريّون و ملحدون بما في ذلك الأنسنة الاشتراكية التي لا تهدف الى الغاء الدّين بل الى ضمان الحريّة الفكرية والدينية للجميع في دولة محايدة دينيا قدر الامكان وتضمن الحقوق و الحريات الانسانية للجميع و تدرّس الفلسفة و العلوم و تدرس حتى الأديان تدريسا علميّا يعتمد منهجا مقارنا ولا يفرض على التلامذة لا الالحاد و لا التدين ،الخ.

وهكذا ،فاذا كانت مشكلة الماركسية الفلسفية مع الدين تكمن في كونها تقيّمه بوصفه جوهرا سلبيا مطلقا و لا تعترف بامكانيات اسهامه في أنسنة الانسان أو على الأقل بقبوله بها وفق تأويلات عقلانية أنسنية له ، فان مشكلتها السياسية تكمن تحديدا في كونها تعتبر فصل الدين عن الدولة وحرية المعتقد شعارات بورجوازية -كما ذكر لينين ذلك في كتابه "نصوص حول الموقف من الدين" - و تعمل على ازالته من المجتمع تماما بتحويل الدولة -التي تتبنى شكليا العلمنة- الى دولة الحادية من خلال هيمنة الحزب الشيوعي الذي يتبّنى "المادّية المقاتلة" كما يشير الى ذلك أحد عناوين كتب ج.بليخانوف في ترجمته العربية .

ان فلسفة الدين الماركسية هي من ناحية فلسفة علومية وضعية جديدة ومن ناحية أخرى فلسفة مادية الحادية مناضلة و هي ،بهذا المعنى وفي احسن الحالات ، ليست سوى شكلا من أشكال الفلسفات الأنسية التسلّطية المضرّة بقيمة الحرّية وهي تهدّد العقل -لأنها تعتبر نفسها مالكه الفلسفي الحصري - والأنسنة -لأنها لا تراها سوى الحادية - في نفس الوقت .

ولنختم الان بالتعليق على ما ختم به ماركس مقدّمته لكتابه مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل.

خاتمة : الفلسفة و البروليتاريا و الدّين

في خاتمة مقدّمته كتب ماركس " ان تحرر المانيا الوحيد الممكن عمليا هو تحررها على أساس النظرية التي تنادي بأن الإنسان هو الكائن الأسمى للإنسان ذاته. (...) ان انعتاق الألماني هو انعتاق الإنسان. ان رأس هذا الانعتاق هو الفلسفة، وقلبه هو البروليتاريا. ان الفلسفة لا يمكن ان تحقق الا بإلغاء البروليتاريا، البروليتاريا لا يمكن ان تلغي ذاتها الا بتحقيق الفلسفة. عندما تتوفر كل الشروط، فأن فجر البعث الألماني سيعلن عنه صياح الديك الغالي ( الفرنسي)."

ونحن نقول :

ان تحرر الانسان ممكن على أساس نظريات أنسنية مفتوحة و متعددة تتقاطع في الايمان بحرية الانسان من ناحية وبامكانياته الفكرية والعملية على التقدّم المستمر باتجاه تلك الحرّية بما فيها الحرّية الاشتراكية .

وان الفلسفة ،بما هي انطولوجيا وايبستيمولوجيا وأنتروبو-سوسيولوجيا وايتيقا واستيتيقا، لا يمكنها أن تعتمد مقياسا واحدا في الحكم على الدين من خلال 'الحقيقة/الخطأ' كما لا يجب عليها أن تضع على جدول أعمالها الغاء الدّين باسم الحقيقة الفلسفية ولكن دون أن تتنازل عن حقّها في نقد كل أشكال الوجود و الوعي بما في ذلك كل تأويلات الدّين المخالفة للعقل والحرية والأنسنة حتى لا تنقلب إلى فلسفة لاهوتية لا تفعل سوى مدح الدين دون أية رؤية نقدية . ولكنها لو اكتفت بالنقد السلبي الهادف إلى إزالة الدين من الوجود فسوف لن تكون سوى ردّة فعل سجالية واستبدادية باسم الحقيقة الفلسفية على سعي علم اللاهوت الى السيطرة على كل شيء باسم الحقيقة الدينية .

وانّ الفلسفة لا يجب أن تطرح على نفسها التحقّق - كي تنتهي وقتها الى مجرّد علم للعلوم على الطريقة الوضعية - ولا أن تربط نفسها بطبقة اجتماعية بعينها - مهما كانت أهمّيتها الحاليّة - وخاصة بتصور بعينه عن تلك الطبقة الاجتماعية يجعل من تلك الفلسفة فلسفتها الحصرية ويدين كل فلسفة أخرى بتهم طبقية، وذلك لأنّ الفلسفة أكبر من أن تكون مجرّد فلسفة طبقية وان كانت دوما منحازة و صراعية.

والفلسفة ، في الأخير، لا يجب أن تعلن أن فجر الانبعاث الانساني يمكن أن يعلنه أي ديك فرنسي أو نسر ألماني أو كوندور أمريكي أو غيره . ان على الفلسفة أن تعلن أن الانبعاث البشري لن يعلن عنه سوى نشيد كوني تساهم فيه كل الشعوب بأجمل ما في ثقافاتها من اصوات بشرية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات