الإيديولوجيا المهيمنة الآن في فرنسا، والتي ينطق بها ماكرون وأمثاله…

Photo

في عام 2005، نشر بيتر بيرغر نصا مهما بعنوان "فك العلمنة عن العالم". لمن لا يعرف بيتر بيرغر، فهو عالم اجتماع أمريكي مختص في دراسة الظاهرة الدينية، واعتبر، خلال عقد الستينات، من أهم أنصار ما سمي ب"نظرية العلمنة". في نصه، لا يجد بيتر حرجا من مواجهة فرضياته السابقة بتطورات الواقع اللاحقة. إذ يعتبر أن نظرية العلمنة، التي تفترض حدوث تراجع تدريجي في الإيمان والممارسة الدينية وسطوة المؤسسات الدينية على السلوكيات والوعي الجمعي يقترن بتقدم مسارات التحديث في المجتمع، أي أساسا انتشار التعليم والحد من الإنجاب والتصنيع، قد صارت لاغية اليوم.

ففي جميع أصقاع المعمورة، نلاحظ فورانا دينيا عارما، في الإيمان والممارسة، وصعودا قويا للقوى والمؤسسات الدينية على ساحة الأحداث العالمية. هذا ما فهمه بعض دارسي الظاهرة الدينية على أنه "رجوع للديني". غير أن بيتر يعارض هذه المقولة ذاتها. فوحدها مجتمعات أوروبا الغربية هي التي فاق فيها أعداد الملحدين والمؤمنين غير الممارسين أعداد المؤمنين عامة والمؤمنين الممارسين خاصة.

لذلك، فإن الحديث عن "رجوع الديني"، هو حديث أوروبي خالص، لا معنى له بالنسبة إلى بقاع العالم الأخرى. ففي نظر بيتر، لم يختفي الديني أصلا ليعود من جديد. كل ما حدث، في نظره، هو هزيمة مؤقتة للقوى الدينية في مواجهة التحديث: إما بإحداث توافق معه، كما اندفعت إلى ذلك الكنيسة الكاثوليكية في 1964، أو الرضاء بتبوء موقع على هامشه، كحال المسيحية الإنجيليكية التي تحولت إلى ما يشبه الثقافة الفرعية في الولايات المتحدة، أو المواجهة الشاملة معه، كحال تيارات مخصوصة في الإسلام والمسيحية وحتى البوذية.

في المقابل، إن الميزة الدينية لعالمنا اليوم، هو تحول الخيار الثالث، أي خيار المواجهة مع التحديث، إلى خيار مركزي في ديانات العالم الكبرى. وهو ما يعود، في نظر بيتر، إلى عوامل معقدة: أهمها، مقاصر التحديث ذاته، وخصوصا، ارتفاع مستويات اللامساواة بين البشر وعجزه عن تحقيق وعده لهم بالتقدم. هذا ما نراه، اليوم، في الولايات المتحدة مع ترامب ومسانديه الإنجليكيين البيض الحانقين عن تدهور موقعهم وقيمهم في المجتمع، وفي الهند مع مودي ومسانديه الهندوس الحانقين على تزعزع مكانة طوائفهم البراهمية المهيمنة أمام المسلمين، وفي مينامار مع حملة التطهير العراقي ضد الروهينغا التي تحالف فيها الجيش مع رأس المال والنساك البوذيين المتطرفيين الساعين إلى إستعادة نقاوة مجتمعية متخيلة، وفي "أرض الإسلام" أين صارت الفيالق الجهادية زفرة عالم بلا سياسة بالنسبة إلى أجيال شابة تقف مذلولة أمام هيمنة الطغاة في الداخل وبغي الغزاة من الخارج.

قد نتفهم كل الحديث الحداثوي عن خطر "التطرف الديني". لكن، أليس من الأجدى أن يتسائل حداثيونا عن دور التحديث ذاته، بكل مقاصره، في تهيئة شروطه؟ ولو أقررنا بخطر صعود حركات دينية متطرفة تتهدد العالم، ألا يتم ذلك على أنقاض خراب كان قد ساهم التحديث ذاته أي مساهمة في حصوله؟

لعلي أضيف ملاحظة، على الهامش، في خصوص فرنسا، بما هي الآن في قلب الأحداث. في كتابه "من هو شارلي"، الذي أحدث جدلا دون نقاش، للأسف، ذهب إيمانويل تود إلى أن فرنسا تعيش تحولا إديولوجيا محافظا رهيبا، يصل إلى حد الردة في نظره عن قيم فرنسا الثورية الحقة. إذ يعتبر تود أن المجتمع الفرنسي يعيش، منذ الثورة الفرنسية، إنقساما اجتماعيا-مجاليا-إيديولوجيا حادا ومحددا في كل مساراته السياسة.

يكمن معين هذا الإنقسام، في نظره، بين الحوض الباريسي وأطرافه الثورية، والجهات الفرنسية، خصوصا منها الشمالية الغربية. من ذلك، يبرز تود أن الحوض الباريسي هو الذي مثل تاريخيا مجال وحاضنة الثورة الفرنسية وقيمها، من انتفاضة الباستي إلى الكومونة وصولا إلى حرب التحرير ضد النازية. في المقابل، كانت الجهات الفرنسية، في الشمال والغرب خصوصا، حاضنة لقيم الثورة المضادة على مدى قرنين ونيف.

ذلك ما تشهد عليه، مثلا، الانتفاضات التي تحالف فيها الإقطاعيون والقساوسة والفلاحين الصغار ضد الثورة في القرن الثامن عشر، على غرار حرب الVendée التي أخذت شكل انتفاضات مضادة في الشمال الغربي الفرنسي بين 1793 و1832 وقضى فيها قرابة 400 ألف فرنسي نحبه.

وهو ما جعل أب العلوم السياسية الفرنسية، أندري سيغفريد، يضع إشكالية استمرار النزعات الكاثوليكية والإيديولوجية المحافظة في الشمال الغربي الفرنسي، حتى بعد قرنين من الثورة، في صلب كتابه الأساس حول الجغرافيا السياسية لشمال غرب فرنسا الصادر سنة 1913. بأية حال، يرجع تود الاختلافات الإيديولوجية بين الحوض الباريسي والجهات الفرنسية أساسا، لا إلى الدين، بل إلى تكوين البنى العائلية.

فهو يعتبر أن بنية العائلة المساوتية في الحوض الباريسي، خصوصا من خلال إقرار حق الميراث لجميع الأبناء، قد سهلت تقبل واستيعاب قيم الثورة المساواتية. في المقابل، مثلت بنية العائلة الهرمية في الجهات الفرنسية، خصوصا من خلال حصر حق الميراث لدى الإبن البكر دون غيره من الإخوة، بنية اجتماعية صلبة أعاقت هضم قيم الثورة. (الانجذابات الانتقائية بين البنى العائلية والقيم الإيديولوجية حول العالم هو موضوع كتاب مستقل لتود).

غير أن ما حصل في فرنسا، خلال القرن الماضي، حسب تود، هو تحولين مهمين: أولا، نزع الكاثوليكية عن الجهات الفرنسية، وتقهقر سطوة الكنيسة المجتمعية نهائيا. ثانيا، تآكل إيديولوجيا الحوض الباريسي الثورية بفقدانها عدوها الذي تتعرف ضده، أي التيارات المحافظة المضادة للثورة. بالنسبة إلى تود، نهاية المسيحية الكاثوليكية، لا تعني نهاية قيمها: أي القيم الهرمية والتسلطية والتراتبية. إنما أنتجت هذه الحالة ما يسميه تود ب"الكاثوليك الزومبي": أي قوى اجتماعية تستبطن قيم الكاثوليكية مجردة من وعائها الديني.

في ظل أزمة الإيديولوجيا الثورية الفرنسية، زحف "الكاثوليك الزومبي" على صدارة الساحة السياسية الفرنسية. وهو ما يبرز، مثلا، في حالة هولاند وماكرون القادمان من عائلات أصلها من شمال غرب فرنسا، وذات خلفية كاثوليكية. الأدهى، أن الكاثوليك الزومبي قد تلبسوا بقيم الإيديولوجيا الثورية الفرنسية وقلبوها على عقبها، كما يبرز في سياستهم النيوليبرالية، واعتمادهم تحالفا طبقيا بين رؤوس الأموال والطبقات الوسطى-العليا.

ولعل الإنقلاب الآخر المهم الذي أحدثه الكاثوليك الزومبي، بالنسبة إلى تود، في الإيديولوجيا الفرنسية الثورية، يكمن في طبيعة العدو الذي تتعرف إزاءه. هذا العدو الذي انتقل من الجهات الفرنسية المحافظة المناهضة لقيم الثورة، باختفاء الكاثوليكية، إلى مجموعة دينية أقلوية، وهي المسلمين. طبعا، هنا يخوض تود جدلا طويلا يثبت فيه مدى قابلية المسلمين للإندماج في المجتمع الفرنسي، عبر التعليم والعمل والزواج المختلط، لا يمكننا الخوض فيه باختصار.

لكن، ما يبرزه تود، هو أمرين هامين: أولا، أن الراديكالية الإسلاموية في فرنسا ليست سوى تعبيرة أقلية بين المسلمين، تعود جذور بروزها أساسا إلى الإنقسامات الاجتماعية العميقة في المجتمع الفرنسي، وارتفاع منسوب التفاوتات فيه، وتناقضات نموذجه عن التكيف الثقافي. ثانيا، أن الإيديولوجيا المهيمنة الآن في فرنسا، والتي ينطق بها ماكرون وأمثاله، لا تمت بصلة إلى الإيديولوجيا الثورية الفرنسية. بل هي انقلاب عليها. وهو انقلاب في كنهه ديني، إذ يمثل انتقاما للكاثوليكية من القوى اللائيكية، بشكل تاريخي، ماكر، ومخادع.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات